قبل 10 سنوات، لم يَكن خبر السجون، في الإعلام اللبناني غالباً، إلا أمنيّاً. سيختلف الأمر، لاحقاً، مع تعهّد الأكاديمي والزميل عمر نشّابة إنشاء صفحة يوميّة اسمها «العدل» في جريدة «الأخبار». سيُصبح السجن فيها «قضيّة عدليّة» بامتياز.
قضيّة، تُثار بشكل شبه يومي، لا مجرّد خبر. لم تكن مهمة سهلة. أن تتوجّه إلى القرّاء في بلادنا، إلى الرأي العام عموماً، بخطاب «أنسنة» السجناء، في مجتمع يزدري بوعي ولاوعي هذه الفئة مِن الناس، فأنت تسير عكس السائد. إنّها مجازفة. بعد مدّة، ستغار وسائل إعلام أخرى مِن هذه المنهجيّة، إذ بدأت تُثمِر، لتصبح السجون في لبنان، بعد ذلك، قضيّة «رأي عام». هذه ليست دعاية. إنّها وثائق وأرشيف.
نجح نشّابة والزملاء العاملون معه في ذلك. الأكاديمي الآتي مِن خلفيّة تخصصيّة في العلوم الجنائيّة، وصاحب النزعة الحقوقيّة والعدليّة - الإنسانيّة، سيُصاب مع مرور الوقت، أو ستتفاقم إصابته، بشغف الغوص في عوالم السجون. «ذاك المكان»... الرهيب. «ذاك المكان»، هذا هو عنوان كتاب نشّابة التوثيقي لحالة سجون لبنان. الكتاب الذي صدر العام الماضي، والذي جال مؤلّفه على 23 سجناً، هي كلّ سجون هذا البلد الصغير، وذلك على مدى ثلاثة أعوام (2009 - 2011). استفاد الكاتب في إعداد عمله، في تلك الفترة، مِن كونه مستشاراً لوزير الداخليّة الأسبق زياد بارود في شؤون حقوق الإنسان. كتاب بغلاف أسود اللون بالكامل، كسواد ليل الزنازين، لا يخرقه إلا العنوان بالأبيض. لعبة بصريّة تؤجج حشريتك لفتحه. صورة صغيرة لنافذة زنزانة، مضيئة وسط العتمة، وفيها رأس سجين يُحاول أن يسرق بعض الأمل. لعبة الأضاد. ليست الصورة إلا واحدة مِن عشرات الصور التي بين دفتيّ الكتاب. العمل صوريّ بامتياز. صورٌ بعضها ملّون وأخرى بالأبيض والأسود. لقطات غير مسبوقة، مِن داخل السجون، مِن عمقها المجهول، التقطها الزميل هيثم الموسوي بعدسته على مدى سنوات. رافق نشّابة في رحلاته بين عنابر العتم. وحدها روائح المراحيض والرطوبة والعفن كانت عصيّة على عدسة كاميرته، يقول الموسوي. الصورة مجال بصري، لا مكان للرائحة فيها، تلك لا بد لك من شمّها بأنفك مباشرة. صور مِن السجون الـ 23 في لبنان، مِن كلّ المحافظات، ليس بينها واحدة تخلو مِن ألم. كان موفّقاً في اختياره للجزء الثاني مِن كتابه عنوان «23 سجناً بالسوط والصورة». إنّه مِن الكتب التي تجلد القارئ بسوط الوجدان. ليس العمل رواية أدبيّة، ليس خيالاً، وهذا ما يشفع لبعض النصوص القانونية الرتيبة الواردة فيه. الأكاديمية أساس فيه. لكن بعض فصول الكتاب، على قلة الكلمات فيها، وبفضل الصورة، يُمكن أن توفّر مادة خصبة – ملهمة – لأعمال سينمائيّة أو أدبيّة.

القوانين والمراسيم
منذ ما قبل الاستقلال إلى اليوم، تجعل من الكتاب مرجعاً لتاريخ السجون في بلادنا
إنّها صور لكائنات بشريّة تعيش مع المراحيض، ينامون حيث يتغوّطون، يأكلون ما يُفسد أجسادهم، تلك الأجساد المحرومة مِن الشمس، فيموتون جميعاً. مِنهم مَن يُدفَن، ومِنهم مَن يَستمر قلبه في النبض... ميتاً. الحياة شحيحة في السجون. صورٌ، وبعض نصوص عفويّة كتبها سجناء، تجعلك تسأل ماذا فعل هؤلاء ليستحقوا هكذا عقاب! سيُجيبك الكاتب أنّ بعضهم سرق دراجة ناريّة، بعضهم حرّر شيكاً بلا رصيد، بعضهم تعاطى المخدّرات، وهكذا. هذه جرائم كافيّة لتُسحَق إنسانيّتك في«ذاك المكان». بعضهم مجرمون قتلة؟ صحيح. ستجد نشّابة يُعلّق على هذه المسألة في افتتاحيّة الجزء الثالث مِن كتابه، قائلاً: «مِن بين السجناء أشخاص يُشكّلون خطراً أمنيّاً على المجتمع وعلى حياة الناس وأملاكهم ومصالحهم، لكن هذا لا يعني أنّهم ليسوا جزءاً مِن هذا المجتمع، ولا يعني أن أفعالهم الجرميّة ليست وليدة «بيئة حاضنة»». لغة الأرقام المعتمدة في الكتاب تجعله مرجعاً، لا غنى عنه، لمن يهدف، أو سيهدف لاحقاً، لدراسة تاريخ السجون في بلادنا (على طريقة ميشال فوكو مثلاً). كذلك تضمينه ملحقاً بالقوانين والمراسيم الناظمة للسجون، منذ ما قبل الاستقلال إلى اليوم. عن اسم الكتاب، «ذاك المكان»، فإن الكاتب يغمز به مِن تحاشي الناس التحديق في عالم السجون، في وجوه نزلائها تحديداً، كتحاشيهم تسمية مرض السرطان باسمه. هذا ما يحصل في مجتمعات هذه البلاد. إنّه «ذاك المرض». شيء مِن الإنكار. الرغبة بأن يظل ذاك الشيء هناك، بعيداً، لا هنا. تلك السجون، التي ما زالت على حالها رغم كلّ الصراخ المطلبي، يدخلها أحدهم خبيراً في مجال جرمي ما، فيخرج، في ظل غياب التأهيل، خبيراً أكثر، وفي مجالات جرميّة متعدّدة. لم تتوقف سجون لبنان عن رفد المجتمع بالجريمة. إنّها عمليّة إعادة تصدير. جهد الكاتب في إيضاح هذه الفكرة. الوزير بارود، الذي كان على رأس الوزارة (الداخليّة) المولجة إدارة السجون، قدّم للكتاب قائلاً: «حسبُ المؤلّف أنّه أضاء، بجرأة وبصورة علميّة، على واقع يرغب كثيرون في التعمية عليه. حسبُه أنّه يَعرف «ذاك المكان» معرفة الخبير المُلّم الموضوعي الرصين، وها هو ينقلنا مِن وإليه، مِن حيث هو راهناً إلى حيث يجب أن يكون... يوماً». لنشابة توصيف لذاك المكان، السجن، يُلخص ربّما رؤيته، إنّه «مكان إنتاج الشر».
لا بدّ أن الكاتب اكتشف، بعد خبرته، أنّه كان في بدايات اهتمامه بالسجون «طوباويّا» بعض الشيء. في أحد أجزاء الكتاب يتحدّث عمّا يُعرف بـ «قواعد الحد الأدنى لمعاملة السجناء». هذه من الأعراف الحقوقيّة دوليّاً. كم تبدو الكارثة فظيعة عندما يبدأ يُقارن بين تلك القواعد والواقع المُعاش في سجوننا. يتحدّث عن المطلب الحقوقي الأزلي، في لبنان، بنقل إدارة السجون مِن وزارة الداخليّة إلى وزارة العدل. الغاية نقل إدارة «ذاك المكان» إلى أشخاص أكثر «مدنيّة»، بعيداً عن «البوليس». هذا ما لم يتحقق، بل لم يعد ثمّة من يتحدّث اليوم عنه. «ذاك المكان» (الصادر عن دار كتب) ليس الأول لنشابة في مجاله. كتابه الأوّل كان قبل نحو 9 سنوات، الذي خصّصه، كبحث مصوّر للسجن المركزي فقط، بعنوان: «سجن رومية إن حكى». إذا أردت أن تعرف شعباً، فانظر إلى سجونه. بهذا الاقتباس لنيلسون مانديلا يفتتح نشابة «ذاك المكان».