في الماضي، نجح الراحل محمد الماغوط من خلال أعماله المسرحية المكتوبة في تقديم دريد لحّام (خارجاً من شخصيته الأثيرة «غوار الطوشة») بشكلٍ مختلف، مخلداً إياه كعلامة سياسية لا كمجرد «كوميديان». الأمر نفسه نجح فيه الكاتب وحيد حامد، حين قدّم عادل إمام في سلسلة أفلام كرسته «زعيماً» للكوميديا المصرية السياسية/ الاجتماعية.
اليوم، يخوض يحيى جابر التجربة عينها مع الممثل المتميز زياد عيتاني من خلال تجربتهما الثالثة «بيروت بيت بيوت» التي تقدّم على مسرح «تياترو فردان». تأتي التجربة الجديدة استكمالاً للعملين السابقين: «بيروت الطريق الجديدة»، و«بيروت فوق الشجرة». هذه المرة، قرر الثنائي أن يقدّم العمل من خلال التركيز على حياةٍ «كاملةٍ» لطفلٍ «بيروتي» بكل ما تحمله الكلمة من معنى: بيروتي بالنسب، والولادة، والتربية، والحياة اليومية، والسياسة، وبالتأكيد الوجود والقلب.
إنها الدورة المدهشة للحياة داخل المدينة التي أخذ منها الجميع ولم يعطها أحد شيئاً. لطالما أشار الكاتب/ المخرج يحيى جابر، والممثل زياد عيتاني إلى الفكرة عينها سواء من خلال أحاديثهما الصحافية أو نصهما المسرحي والأدائي: لطالما دفع أهل المدينة الأصليون وسكانها (أو وافدوها الأوائل لو تنفع التسمية) ثمن كل شيء، ولم يحصلوا في المقابل على تقدير كبير. يشير عيتاني/ جابر إلى «أنَّ اليسار مثلاً تعامل مع أهل المدينة الأصليين ــ أي البيارتة ــ على أنّهم أثرياء أو مرفهون، وليسوا كالوافدين وسكان الضواحي الأكثر فقراً عادةً. تناسى هؤلاء أن في المدينة أحياءً فقيرةً كثيرة، وطبقات اجتماعية متعددة».

إنها الحياة اليومية لسكان
المدينة حيث السياسة تدخل
في كل التفاصيل


تخوض المسرحية صراعاً جديداً، يمكن اعتباره تطوراً منهجياً للمسرحيات السابقة، والأكثر نضجاً بين التجارب الثلاث. إذ ينضج الكاتب في جابر، كما ينضج الممثل في عيتاني. الأخير قادم من عائلةٍ فنية (جده هو الفنان محمد شامل)، ما يجعله إلى حدٍ ما حاملاً «صليبه» الخاص، إذ عليه أن يكمل «سلسلةً» طويلة من «فناني» بيروت (ليس آخرهم خضر علاء الدين/ شوشو الذي هو قريبه هو الآخر) الذين دمغوا المدينة الشهيرة بألوانهم الشخصية.
أدائياً، يبدو زياد متمكناً على المسرح، يقول ما يريد قوله بسهولةٍ، يحفظ «كثيراً»، يحكي الكثير من حكايات المنطقة (المزرعة)، منذ ولادته إبان اليوم الأوّل لحادثة «بوسطة عين الرمانة» الشهيرة (13 نيسان 1975)، اليوم الذي أرّخ لبداية الحرب اللبنانية، متناولاً تفاصيل تخص المدينة من خلال حكايا عائلاتها التي تجمّعت من دون أي فوارق بينها: فلا الشيعي شيعي، ولا السني سني، ولا المسيحي مسيحي. كانوا مجرد سكانٍ لعاصمةٍ تضم الجميع. الأمر يتصاعد لاحقاً من خلال رواية العلاقة الزوجية بين جومانا وزياد، اللذين يقرران خوض الحياة بكل ما فيها. هنا يقارب النص رحلةً أخرى: رحلة العمل الاجتماعي الممزوج بالسياسي، وفي هذا يجيد جابر لعبته أيضاً. إنها حرفته منذ زمنٍ بعيد، فهو يقارب السياسي/ الاجتماعي في كل ما يفعله، فلماذا ستختلف هذه المسرحية؟ باختصار، كل حرفٍ في المسرحية يملك بعداً سياسياً خاصاً، حتى الخلافات العائلية الصغيرة يحكمها بعد سياسي، إنها الحياة اليومية لسكان المدينة: السياسة تدخل في كل التفاصيل، لا نقاش في ذلك.
وبالعودة إلى أداء عيتاني، يمتاز الممثل الشاب بكونه يصيب ما يريد، وخصوصاً لناحية «الارتجال»، إذ يبدو أنه يرتجل، وفي حال كان كل ما يرتجله «مكتوباً» من قبل، فإن هذا يحسب لمصلحته، إذ إن المشاهد يعتقد بأن هناك الكثير من الارتجال. كذلك، يتحرك عيتاني على المسرح كثيراً، يؤدي شخصيات عدة، يغيّر صوته ليعطي الشخصيات حقّها (يذكّر ببدايات رفيق علي أحمد الرائعة مع مسرحية مثل «الجرس»)، يتنقل بينها بسلاسة وسهولة، ما يتيح للمشاهد متابعته والتعاطف معه. في الإطار عينه، يقارب البعد السياسي للمسائل المطروحة من خلال الجدية في لحظةٍ ما. إخراجياً/ كتابياً، يمكن القول إنَّ المسرحية التي تغيب عنها الشخصيات المساعدة، تنجح في تخطي ذلك، ولا تشعر المتابع بأي ملل. الديكور من جهةٍ أخرى بسيط، مع كرسيين يتوسطان المكان، يتحركان تبعاً لحاجة المؤدي. يعاب على المسرحية (أمرٌ موجود في الثلاثية كلها) أنه في بعض الأحيان يميل إلى الخطابة (وخصوصاً مع اقتراب نهاية المسرحية) ولا نتحدث هنا عن «درس أخلاق»، بل عن بعض الرسائل المباشرة. كان يمكن للبطل والكاتب/ المخرج تجاوزها من خلال المنطق نفسه المؤدى خلال المسرحية، أي الرسائل المبطنة والكوميدية.
ختاماً، تأتي هذه المسرحية عملاً ممتعاً يستحق المشاهدة، والثلاثية بأكملها تؤرخ لولادة نجمٍ مسرحي من نوعٍ خاص، لكن السؤال الذي يكمن في الأفق: ماذا سيقدّم عيتاني لاحقاً بعد فراغه من «الثيمة» البيروتية؟ وهل سيكون أداؤه في أدوارٍ مختلفة «عالياً» كما نشاهده في ثلاثيته المسرحية؟

* «بيروت بيت بيوت»: مسرح «تياترو فردان» ــ للاستعلام: 01/800003