كنّا ننظر باطمئنان إلى علمانية صادق جلال العظم (1934- 2016)، بوصفها سراجاً مضيئاً في عتمة النفق الضيّق للفكر العربي. نتأمل بإعجاب وتبجيل أفكاره الراديكالية في المادية والتاريخ والحب العذري. ها هو مفكر سوري مثير للجدل، سجالي من طرازٍ خاص، ارستقراطي بمعطف ماركسي حاضر بيننا، نستظل بقامته العالية ونتكئ إلى حكمته وبريق اسمه النافر، فنحن إزاء أكاديمي بمواصفات استثنائية بحق لطالما حطّم الأسوار العالية للجامعة المغلقة على الأفكار اليقينية.
وكنّا نعيد حادثة رواها ذات مرة كدليل إرشادي إلى أصالة الفكرة. حضر الفيلسوف السوري إلى «مطعم قصر النبلاء» الراقي في وسط دمشق، ملبياً دعوة على العشاء بسيارته القديمة المتهالكة. بدا بالنسبة إلى حارس المكان كما لو أنه أخطأ العنوان، وسط قافلة السيارات الفخمة لعلية القوم. وحين أدرك ارتباك الحارس، قال له وهو يبرز بطاقة الدعوة «بالمناسبة أنا النبيل الوحيد بين كل هؤلاء المدعوين».
وكنّا نذهب إلى «الأسبوع الثقافي» الذي يستضيفه قسم الفلسفة، ربيع كل عام، في أروقة جامعة دمشق، في تسعينيات القرن المنصرم، بوصفه أبرز العلامات على حيوية الثقافة السورية وتنوّعها في تلك الفترة العاصفة. ارتبط نجاح هذا الأسبوع الاستثنائي باسم صادق جلال العظم الذي كان يرأس قسم الفلسفة، وكوكبة من الأكاديميين والمفكرين السوريين والعرب، قبل أن تنزلق الندوات الساخنة تدريجاً نحو أسئلة أقل وطأة وجاذبية بحكم محاصرته وخنق رحابته الفكرية، لاختراقه الخطوط الحمر في سجالاته حول الإسلام السياسي، وعلم الاجتماع، والاقتصاد، بمساهمة مفكرين ونقّاد من طراز طيب تيزيني، وحسن حنفي، وحليم بركات، ونايف بلّوز، وعادل العوا، وعبد الرحمن منيف، وجورج طرابيشي، ومحمد سعيد العشماوي، وأحمد برقاوي، وفيصل درّاج، وآخرين.

فكّك المنظومة الدينية والإيديولوجيا الغيبية

هكذا انطفأ النقاش فجأة، وفرغت مدرجات الجامعة العريقة من جمهورها النوعي. من جهته، انشغل العظم لاحقاً بسجالات لا تقل حيوية عمّا سبقها. في تلك الفترة، برزت قضية تكفير سلمان رشدي إثر صدور روايته «الآيات الشيطانية» وما أثارته من ردود فعل غاضبة، وإذا بهذا المفكّر الإشكالي يجد في هذه القضية «فضيحة أدبية كبرى»، مراهناً على العقل المغاير في تفكيك سطوة المقدّس، بصرف النظر عن أدبية الرواية أو لا أدبيتها. لكن كتيبة «ذهنيّة التحريم»، وفقاً لعنوان أحد كتبه، ستنتفض بعنف داعيةً إلى هدر دم الروائي البريطاني/ الهندي، وسوف تشمل حملة التكفير العظم نفسه بوصفه ملحداً ومهرطقاً. لكنه سيشق طريقه نحو أسئلة أخرى أكثر جذريّة مساجلاً إدوارد سعيد في «الاستشراق والاستشراق معكوساً» تارةً، ثم أدونيس في «النقد المنفلت من عقاله» ردّاً على مقاله «العقل المعتقل» طوراً، بالإضافة إلى نقاشات مثيرة حول «أحوال التخلّف والمتخلفين»، و«الغزو الثقافي»، و«العولمة». تكمن مساهمة صاحب «عسر الحداثة والتنوير في الإسلام» في إشعال الموقد بحطب الآخرين، أو عبر «نصّ الآخر»، أكثر منها أفكاراً مبتكرة، بنجاحات متفاوتة في اختراق الفضاء العام، متكئاً في أطروحاته على العلم في مواجهة الخرافة، خصوصاً في كتابه الإشكالي «نقد الفكر الديني» (1969). هذا الكتاب وضع اسمه في مكانةٍ مرموقة كأحد المنافحين عن المنهج العلمي في تفكيك المنظومة الدينية و الأيديولوجيا الغيبية، نافياً عن الدين روحانيته الخالصة، وهو ما وضعه في مهب عاصفة من الانتقادات السلفيّة إلى درجة فصله من الجامعة الأميركية في بيروت ومحاكمته وسجنه فترة بسيطة، قبل أن يغادر عاصمة الثقافة العربية، على خلفية أطروحاته المضادة للمزاج الشعبي في رؤيته للدين الإسلامي. هكذا كان سؤال «ألم تقرأ كتاب نقد الفكر الديني؟» نوعاً من الاتهام بالقصور المعرفي لمن لم يطّلع عليه، أقله بالنسبة لجيلي السبعينيات والثمانينيات. كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة» (1968) كان أول بحث عربي يستخدم تعبير «الهزيمة» لوصف ما حدث في حرب حزيران 67 بدلاً من عبارة «النكسة» التي كانت دخلت حقل التداول الرسمي والفكري والشعبي بغرض تمويه الحقيقة المفجعة، موضحاً أنّ نزعة إزاحة المسؤولية عن الذات، وإسقاطها على الآخر، نزعة متأصلة تدخل في بنيان المجتمع العربي التقليدي. وقد بلغ الشطط ببعضهم إلى اعتبار الهزيمة نكبة إلهية. من كانط، إلى هنري بيرغسون، إلى ماركس، رحلة طويلة قطعها المفكر السوري الذي نبذ قيم عائلته الإقطاعية لينخرط في ذاتٍ أخرى، حاملاً راية العلمانية كفضاءٍ بديل من الأمراض المستعصية والبثور التي تثقل تطلعات المجتمع العربي نحو لحظة تنويرية تلحقه بالعقلانية الكونيّة. بهبوب ريح الانتفاضات العربية، انخرط صادق جلال العظم بأسئلة الثورات، وصولاً إلى خندقٍ آخر يتعلّق بموقفه من الحركات الإسلامية، بارتحالات مضادة، ناسفاً أطروحته الأساسية عن إجهاض العقل لمصلحة اليقين الغيبي. إذ بدأت تتسرّب إلى نقاشاته مصطلحات لا تتواءم مع أطروحاته القديمة، من طراز «مظلومية السنّة»، و«العلوية السياسية»، والبعد الطائفي للصراع في سوريا، معوّلاً على ثورة تطيح بالأنظمة القديمة بصيغتها المافيوزية، مهما كانت مآلات هذا الصراع، لكنه يستدرك موضحاً غرضه من هذا الطرح بقوله «المقصود هو التقاط جانب هام وحاسم من الواقع السوري الراهن على مستوى التجريد الذهني. هذا مطلوب لأني لاحظت أن المناقشات العلنية للثورة السورية تأبى التطرق لمشكلات الطائفية والمذهبية والإثنية والأكثرية والأقلية، خوفاً من صب الزيت على النار، في حين أن أحاديث الجلسات الخاصة والمناقشات المغلقة لا تدور إلا حول هذه المواضيع».
كما ستتخذ سجالاته مع أدونيس حول الانتفاضة السورية بعداً طائفياً، أو إنها فُسّرت كذلك، متهماً إياه بمناهضة الحراك الشعبي وتخليه عن الشعار الذي أطلقه في مجلة «مواقف» حول الحرية والتفكير والإبداع، لمصلحة خطاب «يتلعثم ويتأتئ ويفأفئ، وبدلاً من أن يكون خطاباً واضحاً وصريحاً، أخذ شكل: نعم ولكن أو نعم وإنما». لكن العظم نفسه وقع في المغطس نفسه، خصوصاً في ما يتعلّق بموقفه المستجد من الحركات الإسلامية القروسطية، واستدارته المباغتة في مديح هذا الخطاب والتعويل على التنظيمات الإسلامية المسلّحة التي كان يصفها بالأيديولوجيا الرجعية، بصناعة ثورات التغيير ضد أنظمة الاستبداد، بغياب شبه تام للنبرة اليسارية التي دمغت مساره. كان بإمكاننا بلع عبارة مثل «مظلومية السنّة» لو أن من نطقها تربّى في مدرسة ابن تيمية مثلاً. أما أن يتبناها ماركسي عتيق بمقام صادق جلال العظم، مستأنساً بخطاب شعبوي/ ليبرالي، أفرزته عشوائية الانتفاضات نفسها، فإن الأمر يحتاج إلى إعادة نظر، أقله وضع كتابه «نقد الفكر الديني» في الرفوف الخلفية للمكتبة، وربما رفعه إلى «السقيفة»، بجانب الكتب التي لم تعد مناسبة للقراءة الراهنة، فيما سيبقى خلافه مع أدونيس حول أهمية التاء المربوطة (جامع/ جامعة) في صناعة الثورات، معلّقاً في فراغٍ سديمي بلا أفق، بما يقع في باب محنة العقل العربي. رحل صاحب «ما بعد ذهنية التحريم» بعد تتويجه بوسام «غوته» الألماني، من دون أن تتوقف المعركة بين مريديه وخصومه حول مواقفه الأخيرة مما يحدث في بلاده. هكذا تلتقي الأرض مع السماء في نهاية الرحلة بقراءة الفاتحة على روح الغائب. لعلها معضلة المثقف العربي: أن تخلع معطف ماركس وتتدثّر برداء الطواف!