عبرت كالنسمة، تاركة حيثما حلّت أمواج عطر خفيف أخضر. تركت بسمتها على جدران شبابنا القريبة، على أوراق الصحف المصفرّة التي امتصّت حبرنا من دون أن ننتبه. عرفتها في باريس، ثم في لندن، أو العكس. لا يهمّ.
صرنا أكثر من زملاء، صرنا أصدقاء. واحدة من هذه الصداقات التي لا تصنّف بسهولة، ولا تخضع لثقل اجتماعي أو حدود جغرافيّة. تفاجأتُ ذات مساء، حين التقيتها متأبّطة زند ناصر، في «الداون تاون»، قبل أن يُقفِر. جلسنا في مقهى كأننا نتعارف من جديد بعد ربع قرن. «هل عدتِ حقّاً إلى بيروت؟». كانت تركت العمل في جريدة «الحياة» من زمن، وراحت تكتب في مجلات متخصصة عن الفن، مقالات شهيّة، ودسمة، وممتعة. سأورطها لاحقاً بمقالة لمجلّة «زوايا» عن شفيق عبّود (مرجعيّة يمكن أن أقول الآن، بعد ١٥ سنة). «وأنتَ أيضاً عدتَ؟» أجابتني. آه صحيح. أنا أيضاً عدت. كلّنا نعود، لا نعرف متى، ولا كيف، ولا بأي هدف. لكننا نعود. إنّه نداء غامض. نعود لنواجه لعنتنا، لنخوض معاركنا الدونكيشوتيّة، لنخترع وطناً، أي مكاناً صغيراً يشبهنا. نعود لنستريح من العالم. لنودّع موتانا أيضاً. «هناك وقت يغادر فيه المرء، وهناك دائماً وقت للعودة».
جوزف هو الذي عرّفنا ببعض. وكانت آرليت هنا، «تركّب مقلة» كالعادة. جوزف سماحة عرّاب صداقتنا الذي يقف وراء الحكايات واللقاءات والسهرات النادرة، بقيت تحتفظ له في قلبها بمكانة خاصة. وفي كل عشاء أدعى إليه في بيروت، عندها وعند الفنان ناصر السومي، شريكها في «ذهب الوقت»، كان تأتي لحظة الذروة، بعد أحاديث الفن والسياسة والحياة. يرفع ناصر كأسه إلى الأعلى ويدعونا إلى شرب نخب جوزف. تبتسم رلى كأنّه سيصل بين لحظة وأخرى. الآن سيشربان معاً نخبنا، هي وجوزف، في المقلب الآخر. صارت بيروت واحة ناصر ورلى، ومحطّة ثابتة بين اسفارهما. كانت السنوات الماضية مثمرة: ووضعت كتباً فنية، ونسّقت معارض. في أيّام المرض الأخيرة، بعدما كانت استعادت أملها في التغلب على الوحش، ثم انتكست فجأة، كان ناصر هنا. هذا الفلسطيني التائه الذي صنع «أيقونة ليافا»، وخبير الزيوت والخمرة والطبخ، الشغوف بسيرة المسيح، خاض إلى جانبها الجولة الحاسمة، بصفاء مدهش لعلّه صورة مُثلى عن الشجاعة الفلسفيّة. كان يسامرها ويخططان لكتابها، لمعرض يضم أعمال فنانيها المفضلين. خلال أسبوع تسارعت الأمور، صارا يتحدثان عنها «هي» كأنّها لم تعد هنا. تلك تمارين حميمة على الغياب. الذي يبقى يحمل العبء، والتركة الجميلة، ويواصل السير. إذا لم تكن هذه الحكمة فما هي الحكمة؟
آخر الربيع الماضي في «السبورتينغ» كنت ِبكامل حيويتك يا رلى، وكان ناصر هنا بالجيليه والفولار الأبديين يستمتع بنافذته الوحيدة على البحر. لا أحد يفهم الموت. رلى كان يجب أن تعرفها، لا أن تقرأها فقط. فيها شيء من البوهيميا الهاربة من وودستوك، أو المستعارة من جيل البيتنيك. خلف أيقونة البنت «العاقلة» بالتسريحة «الكاريه». كان يجب أن ترى تلك الاحترافيّة، وذلك الهوس بالتفاصيل. فوضى المشاعر والتجارب والأحاسيس والأفكار، تنتظم هنا في دقّة مقلقة. العشق الغامض للقصص، والأشياء، والأعمال الابداعيّة. رلى الزين كانت فريدة في جيلنا، بحضورها الخافت، وخطواتها الخفيفة. تتحدّث قليلاً، تكوّر عينيها لتفهم أكثر، من خلف نظارتين رحبتين تتسعان للعالم. تطرح أسئلة كثيرة، وتراقب، وتريد أن تفهم أكثر، حيث يظن معظمنا ألا شيء يستحق التمحيص والتعمّق. هذا على الأرجح إرث تكوينها الأكاديمي في مجال الأركيولوجيا. تأتي إلى مسرح الحكاية، أو إلى حياتك، لا تخرّب، ولا تثقل بظلّها، ولا تلوّث، ولا تكسر. تترك الأشياء في مكانها، بالكاد تلامسها: ما يكفي لكي تدرسها، وتقيس الزمن، وتفهم.
كأنّنا بعالمة الأركيولوجيا التي امتهنت الصحافة، أمضت حياتها (القصيرة) تحفر بصمت، وتحاول أن تفهم. أن تعيش. أراها الآن بتلك الدهشة الطفوليّة، بطريقتها في التركيز على الحديث أيّاً كان. هادئة كبركان، محايدة تنضح بطاقة ايجابيّة. لدرجة تجعلك تسأل دائماً: ألا تحزن هذه المرأة أبداً؟ كلمة «إمرأة» مبالغ فيها، لنقل هذه «الشابة» التي يصعب تصنيفها في خانة عمريّة. ألهذا تراها رحلت مبكراً قبل أن يغلبها العمر؟ أحياناً تظنّ أن هذه الطيبة سذاجة. ولعلّ السذاجة فضيلة غالباً. لكنّها هنا تواضع العارف، وخفّة الكائن التي لا تحتمل. «كان يصفعك انفتاحها، وقدرتها على احتواء كل شيء، وقبول كل شيء»، يقول ناصر في محترفه وقد تركها تنام قليلاً. تلك معادلة سحريّة! لا أظنّها تركت عدوّاً واحداً، أو عرفت مشاعر الحقد والمرارة. ربّما كانت تضجر غالباً من التكرار، ومن كل ما تعرفه. حيادها الظاهري موقف من العالم. بهذه الحريّة عاشت رلى الزين. عملت في الصحافة، ثم في الفن، وعايشت الابداع. كتبت وسافرت وعشقت وماتت. الآن فهمت أكثر لماذا عادت إلى بيروت. يجب أن تنتهي الحكاية بسلام.
أحياناً نكتب كما نبكي يا رلى. أحياناً نكتب بدلاً من البكاء…