على وقع عزف حي ترافقه تحركات بسيطة لبعض الممثلين، انتظر جمهور «مسرح المدينة» دخول عالم «الملك لير» (إنتاج روبيرت مايرز)، أكثر مسرحيات شكسبير تراجيديةً التي سيحظى المشاهد بتذوقها مترجمةً باللهجة العامية اللبنانية.
هكذا اختار كل من اللجنة التنظيمية لاحتفالية المئة والخمسين لـ «الجامعة الأميركية في بيروت» و«مبادرة العمل المسرحي» في الجامعة بالاشتراك مع فرقة The Faction الآتية من لندن الاحتفال بالميلاد الأربع المئة لشكسبير. تولى مهمة الترجمة كل من سحر عساف، وندى صعب ورافي فغالي. فريقٌ تكبد بليونة (لم تخلُ من بعض السقطات) مشقّة ترجمة نصٍ تشوبه الكثير من الصعوبات: على سبيل المثال لا الحصر، كيف يُنقل نصُ شكسبير الغزير بالصور الذي نُظِّم في معظمه على أوزان شعرية إلى العامية اللبنانية؟ كيف يُترجَم الجنون الكامن في أكثر من شخصيةٍ في نص «الملك لير»؟
الواقع أن فريق الترجمة حافظ على ليونته النسبية تلك، وهو أمرٌ أتى أحياناً على حساب شاعرية النص الذي اختُزِل أو كانت كلفته تصنّع العامية في مطارح قليلة في مأساة «الملك لير» (روجيه عساف): ملك يقرّر بعد تقدّمه في السن، تقسيم مملكته على بناته الثلاث، غونريل (زينب عساف)، ريغان الوسطى، وكورديليا (سحر عساف)، سائلاً كل واحدة «من منكن تحبني أكثر؟».
في لحظة إعلانه الأمر لبناته، تشرع الكبرى والوسطى بالتملّق، معلنتين الحب المطلق للأب طمعاً بالميراث الموعود، في حين تقرر الصغرى قول الحقيقة: «ما شي». ليس لديها شيء تقوله عن حبّ والدها. لن تستطيع أن ترفع قلبها إلى فمها، ولن تكذب. لن يكون حبَّها مطلقاً، فهي تعد زوجها المستقبلي بنصف قلبها. لن يتقبل الملك لير جواب ابنته الصغرى، لأنه كان يعتبرها الفضلى. في لحظةِ غضب عارم، يحرمها حصتها من المملكة.
منذ تلك اللحظة، تتوالى الأحداث والمؤامرات التي تتقاطع في سياق متماسك مع عائلة غلوستر (رفعت طربيه) التي تضم إدموند الابن اللقيط (فؤاد يمين) الذي يسعى بمكرٍ شديد لاستعادة مكانته وإرثه في الحياة عبر استدراج والده للارتداد على ابنه الشرعي إدغار، وخداع كورنويل (هادي دعيبس) زوج ريغان. خديعة وسلسلة خيانات متنقلة بين إدموند وكورنويل وريغان حول غلوستر ولير، سيدين كانا يتمتعان بالسلطة والمكانة السياسية. ذنبهما أنهما تقدّما في السن لم تنعمهما البصيرة بالوثوق بنَسَبٍ جديرٍ بالدم الذي أورثاه لأولادهم.
لإعانتهما على مصابهما، كان الجنون مرافقاً لتلك الشخصيتين تحديداً عبر بهلول المرافق للملك لير، وإدغار ابن غلوستر الذي يتنكر بشخصية توما المسكين. الجنون لم يكن حكراً على هاتين الشخصيتين، إذ كان في أجمل حلله وأعمقها عندما توخاه الملك لير.

أجمل المشاهد
جمعت روجيه عساف برفعت طربيه «الحرّيف»


هي شبكة من الروابط بين شخصيات تتحرك في سياق من الأحداث المتصاعدة: «كنت» (بشارة عطالله) الذي يطرده الملك لير لأنه دافع عن كورديليا، يتنكر ليبقى قرب الملك، إدموند الذي يتلذذ بخبثه وخديعته (إلى درجة قد يراه المرء رمز المكر في نص «الملك لير») محطّ شهوة كل من غونريل وريغان، كما لو أن خيانتهما لوالدهما تثير فيهما الشهوة لمن هو أكثر مكراً منهما، وألبني (باسل ماضي) الذي يبدو معتدلاً في معظم الأحيان...
ينتهي العرض بستةِ مقاتلٍ تدعو المشاهد للتساؤل حول جدوى السلطة وقصر البصيرة أمام المكيدة والخبث في ظل قدرٍ غدار يضع الطالح في مقامٍ موازٍ للصالح. ترى، هل كان كل هذا ليحدث لو لم يطرح الملك لير سؤاله الذي ينمّ في الوقت عينه عن تسلط (من منكن تحبني أكثر؟)، تناقضه الرغبة الدائمة في سماع المديح وتأكيد الحب؟ وهل هناك رابط بين التسلط المتنكر في هذا السؤال وجنون لير المقترن ببساطته؟ ما هي دواعي جنون كل من إدغار ولير وبهلول؟
أسئلة ضرورية لمقاربة نص شكسبير كانت لتحدث الفرق في عملية تلقي «الملك لير» بنسخته اللبنانية. بدا أن النص بصيغته اللبنانية ـ مع ليونته وطرافته وبلاغته المتقطعة ـ فُرِّغ من توتره وتراجيديته التي احتاجت للحظات من الصمت ولدوافع للشخصيات ولأفعال درامية تتصاعد وتتخطى ترجمة النص حرفياً إلى اللهجة اللبنانية. وحده روجيه عساف كان يمد مشاهديه بلحظات طويلة من الصمت، كان العرض يحتاج إليها بين وقت وآخر.
بدا التعامل مع تيمة الجنون منقوصاً، بخاصة مع شخصية بهلول التي يُفترض أن تدمج جنون أقوالها ببعض الحكمة وببعض الحركات الجسدية الفريدة. بدا سني عبد الباقي محنكاً أكثر منه بهلولاً، كما لو أنّ جسمه الذي كان يتذكر بين حين وآخر أنه مختلف جسدياً وسلوكياً عن سائر البشر، منفصل عن أقواله التي كانت تصدر كداهية يدرك وقع الكلمات على غيره. في المقابل، تميّز إيلي يوسف حين تحوّل إدغار إلى توما المسكين، إذ عرف دوزنة تحولاته من إدغار إلى توما والعكس. وكان روجيه عساف لافتاً في المشاهد التي توخى فيها لير الجنون. في الواقع، كان روجيه عساف بشكل عام أخاذاً في أدائه للملك لير وهذا ليس مفاجئاً لمسرحي يرى أن الممثل هو الموقع الأساسي الذي يجذبه وفق مقابلةٍ له... وهل هناك أجمل من دور الملك لير؟
من أكثر المشاهد جمالاً المشهد الذي جمع لير مع غلوستر حيث تضاعفت لحظات التمتع مع وجود رفعت طربيه «الحرّيف»، إلى جانب المشهدين الأولين اللذين جمعا لير بابنته كورديليا مع أداء سحر عساف الفطري. ومن المشاهد الملفتة أيضاً مشاهد المكر التي تولاها بدقة فؤاد يمين ولحظات النشوة الذاتية لريغان مع ماريليز عاد.
ما كان محزناً فعلاً هو مشهد العاصفة الذي ـ رغم وجود مخرجتين ومدير حركة المسرح ـ افتقر إلى حسن التدبير الحركي والصوتي، إذ اعتُمِدت العواميد الحديدية لإصدار مؤثرات صوتية فقيرة توحي بالعاصفة. وهنا يأتي غياب دور الفرقة الموسيقية التي تولت العزف الحي. كان من الممكن للعزف الحي أن يلعب دوراً أكبر من وصلٍ خجول للمشاهد، وهو دورٌ يتخطى التدخل حتى في مشهد العاصفة.
كان العرض خارج إطار زمن محدد. هذا ما يفسر خيار الأزياء التي كانت تجمع في الوقت عينه بين أزياء المجتمع المعاصر وبعض موتيفات من زمن شكسبير مع نفحاتٍ ذات طابع غرائبي خجول جداً. ما يسترعي الانتباه هو خيار أزياء غونريل وريغان مقارنةً مع كورديليا. رغم ذلك، بدا خيار الأزياء متشظياً. وهنا يُطرح سؤال: طالما أن العرض خارج زمان ومجتمع محددين ـ إذ يبدو أن خيار اللهجة العامية هو خيار متصل باستقطاب الجمهور أكثر منه خياراً درامياً ـ هل كان يمكن لنمط الأداء التمثيلي للشخصيات أن يكون أيضاً خارج إطار الأداء الكلاسيكي أو أقلّه أكثر جرأة في تقديم اقتراحات أدائية خارجة عن المألوف؟
بخصوص السينوغرافيا، فقد أضفت جواً من السوداوية الباردة: خشبة المدينة السوداء كانت عارية كلياً إلا من ثلاثة مجسمات عامودية فولاذية ضخمة مستطيلة وثلاثة مجسمات أخرى أفقية متحركة تشكل مصغراً للمجسمات العامودية (ديكو غيدا حشيشو) وإضاءة خافتة (فؤاد حلواني) تحدث في أحيانٍ كثيرة خلف شخصياتها ظلالاً مهولة الحجم في لحظات العرض الحاسمة. لعبت السينوغرافيا على لعبة التحجيم، وللرقم ثلاثة رمزيته، فالبنات الثلاث اللواتي ولدن بمكانة وعدن إلى القبر بمكانة أخرى، في حين كان كل من كنت، إدغار وألبني في مكانة وأصبحا في مكانةٍ أخرى. انتهى العرض من دون أن نعي أهمية الجملة الأخيرة التي نطقها إدغار: «لن نرى كل ما رآه، لا ولن نعمر بقدر ما عمر».

* «الملك لير»: حتى 18 كانون الأول (ديسمبر) ـــ «مسرح المدينة» (الحمرا) ـ للاستعلام: 03/020092