1


«لو اعتبرنا أنّ حياة القردة العليا الممتدّة 5 ملايين عام تُعادل ساعةً واحدةً من زمننا اليوم، سيكون تاريخ الإنسان العاقل أقلّ من دقيقتين بقليل». كذا يقول الكتاب المفتوح أمامي الآن. كم سيكون عمر غسان كنفاني إذاً ضمن هاتين الدقيقتين؟ لا أظنّ أنّه كان سيكترث لهذه المعادلة البائسة، بل ربما كان سيضحك ويقول «قرد بعينك» ويكمل ما انقطع من حديثه. ولو بقينا داخل الأرقام، سنكتشف أنّنا أخطأنا في حساب عُمر غسان. لا، هو لم يكن في السادسة والثلاثين، بل في الثانية عشرة فقط. كانت اثنتا عشرة سنة من الإبداع تكفي غسان ليحفر اسمه كأحد أهم الكتّاب العرب، وربما كان أهم الكتّاب الفلسطينيّين بلا استثناء. لا، ليست 12 سنة. بل أقل بكثير، إذا اقتطعنا منها ساعات النوم والصحافة والعمل السياسيّ المباشر والقراءة. غسان تحديداً، كان يلملم ما ضاع من الوقت ليكتب. بل ربما عاش حياته القصيرة كلها يلملم ما ضاع من الوقت ليعيش. هكذا ربما نلخّص حياة غسان.

2


قبل ظهيرة يوم 8 تموز، كان غسان كنفاني يتعرق داخل سيّارته ويلعن الصيف والشمس. وكي يخفّف وطأة الحر القاتلة، تذكّر أنّه ليس في الخزان على الحدود في الصحراء، فنظر إلى لميس بجانبه وابتسم وتابع تدخينه. نظر إلى ساعته ليرى كم تبقّى من الوقت قبل الغروب. حرّ بيروت نعيمٌ مقارنةً بجحيم الصحراء. الصحراء بحر من نار. قلّب العبارة في ذهنه ليرى إن كانت تصلح لتُسجَّل في نصٍّ جديد، ولكنّها لم تعجبه فنفض رأسه ليطردها. فليترك البحر فقط، ويتجاهل النار. ربما لو كان غسان قادراً على كتابة مصيره، لحذف النار من حياته وأبقى البحر. ولكنّ النار كانت قد اندلعت وتفجّرت وانتهى الأمر. تشظّى غسان، لا كما يفعل يومياً بين الكتابة والقراءة والنكد والمرح وفلسطين وبيروت وآني والأولاد والروايات التي لم تكتمل والقصص التي اكتملت والمسرحيات التي لن تكتمل والأنسولين وفارس فارس وأبو فايز والجبهة الشعبيّة والسجائر. لا، هذه المرة تشظّى كما لم يتشظّ من قبل. تناثر جسده وتخلّص من القيظ أخيراً، ونام. توقّف النبض ولكن لم يتوقف الوقت. كانت ساعة يده لا تزال تدق. هكذا ربما نلخّص حياة غسان.

3


ماذا لو كان هناك ثلاثة من فارس فارس؟ لن نطمع بأكثر من ثلاثة فقط، وإن كان مشهد الكتابة اليوم يحتاج إلى ألف كي يتابعوا كلّ ما يُكتَب، ويقرؤوه ويطلقوا أقلامهم اللاذعة. كان فارس فارس علامةً فارقةً في النقد الأدبيّ الصحافيّ.

لم يكن حالماً مثل كيخوته،
بل كان يدرك تماماً كمّ الرداءة التي تخنق كلّ شيء

لا نعلم لمَ اختار غسان هذا الاسم، ولا نعلم السبب الذي دفعه إلى ابتكار هذه الشخصيّة التي تحاول جاهدةً إقناع أنصاف وأرباع ومعدومي المواهب بترك الكتابة والبحث عن هواية أخرى حيث لا فارس فارس بالمرصاد. كما لا نعلم كيف كان غسان يوازن يومه بين أكوام التفاهة التي يقرؤها ليعلّق عليها، وبين كتابته الحادّة المصقولة كنصل. لو استطعنا تخمين تلك الأسباب والأمور، ستكون تلك أفضل نقطة انطلاق لدراسة شخصيّة غسان كنفاني ككاتب. أن تكتب بحرص خوفاً من قارئ ذكيّ يتربّص بك لا يهمّه اسمك بل نتاجك. أن تكتب خوفاً من ذاتك الأخرى التي لن ترحمك لو قلّلت من قيمة الكتابة. أن تكتب خوفاً من فارس فارس. أن تكتب خوفاً من نفسك. هكذا ربما نلخّص حياة غسان.

4


كان كيخوته يحاول استعادة «العصر الذهبيّ» في زمنٍ بات فيه الحديد هو كلّ شيء، زمن الرداءة. لم يكن غسان حالماً مثل كيخوته، بل كان يدرك تماماً كمّ الرداءة التي تخنق كلّ شيء. كان يعلم أنّ «عصر الحديد» سيستمر، ولن يفيده الحلم أو الحنين، لذا، وبكيخوتيّةٍ أكثر من كيخوته نفسه، كان غسان يحاول استخراج الذهب من الحديد. كانت أهميّة غسان، عدا عن كونه (وربما لكونه) مناضلاً، هي محاربة الرداءة في زمنٍ لا شيء فيه إلا الرداءة. كان يحارب الرداءة سياسياً وفكرياً ونقدياً وأدبياً، لا ليستعيد عصراً ذهبياً أفلَ وانتهى، بل ليخلق عصره بنفسه، لينقش اسمه بحيث يتحوّل العصر كله ليصبح هو عصر غسان. ومع ذلك، كان حريصاً على أن لا يتحوّل إلى صنمٍ أو أيقونة. هذا بالضبط ما كان يرفضه. كلّ ما كان يريده، ببساطة، هو أن يُدرك الجيل التالي أنّ ثمة ذهباً تركه له جيل آبائه، وعليه أن يبني عليه كي يحاول تقليص الحديد/ الرداءة. أن تكون ضد الرداءة هو الشرط الأول والأخير لحياةٍ تستحق أن تُعاش. ولا معنى لأيّ «ربيع» أو حياة إن بقيت الرداءة أو تخفّت. أن تعيش وتموت وأنت تحارب الرداءة. هكذا، بالتحديد، نلخّص حياة غسان.