نشيطةٌ هي سحر عسّاف. أستاذة المسرح اللبنانية يمكن اعتبارها واحدةً ممن يعملون على تطوير المسرح اللبناني «الطليعي» ضمن منطق «المسرح هو وسيلة للإفادة والتسلية معاً، وهو يحمل أيضاً رسالةً ومضموناً» على حد تعبير عملاق المسرح الألماني برتولد بريخت. هذه المرّة، تقدم عسّاف مسرحيتها التوثيقية الدرامية «لا طلب لا عرض» في احتجاجٍ صارخ على تخلية سبيل المتهم عماد الريحاوي في قضية «شي موريس» و«سيلفر»، وكري الدعارة اللذين احتجزت فيهما العام الفائت أكثر من 75 فتاة سورية أجبرن بالقوة على ممارسة البغاء.
شغلت القضية الرأي العام اللبناني، وقاربت للمرة الأولى ربما العوالم الخفية والسرية للإتجار بالفتيات (سواء القاصرات أو غيرهن) واستخدامهن في الرقيق الأبيض. لا نتحدث هنا عن دعارةٍ عادية، بل دعارة إجبارية ممارسة بالإكراه وبالعنف. قضية مماثلة ـ كما أغلب القضايا الاجتماعية - غابت أو باتت تغيب بشكلٍ أو بآخر عن المسرح العربي عموماً، ولا يشذ المسرح اللبناني عن ذلك.
«أكيد المسرح ليس تسلوياً فحسب، بل يجب أن يكون هناك عامل جذب في المسرحية. القضية تجذب بشكل أكيد، لأجل ذلك أسمّي هذا العرض بالمسرح الوثائقي، كما أنّه يسمّى أيضاً performance Lecture (محاضرة مُمَثَّلة) حيث لا ديكور، ولا إضاءة، أو بهرجة. فقط شخص يروي القصّة (وهو أنا) وأربع ممثلات يلعبن معي أدوار الضحايا: سيرينا الشامي، جويس أبو جودة، نزهة حرب، دانا ميخائيل. هن يجلسن على كراس، ويخبرن قصصهن بكل هذه البساطة. هذا العرض تم تركيبه» تشرح عسّاف لـ «الأخبار».

استندت عسّاف إلى مقابلات
سُجِّلت مع اللاجئات السوريات اللواتي نجين من تلك الشبكة

تبدو قضية المسرحية شائكةً، فهل كان الدافع في الحديث عن هذه المسرحية هو القضية بحدّ ذاتها؟ أم أنَّ الأمر كان أعقد من ذلك؟ تجيب: «الدافع الأوّل أنه عند حدوث القضية، آذاني الموضوع بشكلٍ شخصي قبل أي شيء آخر. هناك أحداث كثيرة تقع يومياً، بعضها يؤذينا بشكل شخصي». وتضيف: «لم أكن أعرف حين بدأت العمل على العرض في كانون الأوّل (ديسمبر) الماضي، ما هو شكل «المنتج» الذي سيصدر. كيف سيكون شكل المسرحية؟ شكل العرض؟ كيف سيخرج على المسرح؟ كل ما كان يهمني أن أقول شيئاً عن الموضوع. إنها طريقتي في حكاية القصة، أن أروي للناس كيف وصلت إلي القصّة وكيف فهمتها ورأيتها بعد كل الأبحاث التي أجريتها حول الموضوع». تشرح عسّاف أنَّ الجريمة التي وقعت كانت أكبر بكثير مما حكي عنها حتى: «لقد كان الريحاوي يعذّب الفتيات. وكان لكل تعذيب اسم، كان يسمي أساليب تعذيبه لهن، فضلاً عن أنّه كان يكسب الملايين من هؤلاء الفتيات. كان يجبرهن على ممارسة الدعارة مع 10 أشخاص يومياً (هذا على أقل تقدير)، وكان يبدّل الفتيات بين الفندقين (شي موريس وسيلفر) كي لا يعتاد الزبائن عليهن». لكن الأمر الذي تقف عنده المخرجة اللبنانية «أن ما يجعل هذه الشبكات قائمة هو الزبون. للأسف ليس هناك رادع حتى الآن للزبون. مثلاً في حال القبض على حالة دعارة، يخلى سبيل الزبون. من يؤمن المال لهذه التجارة؟ الزبون. من يؤمن البقاء لهذا النوع من التجارة؟ الزبون. إذاً باختصار إذا لم يكن هناك طلب، ليس هناك هذا النوع من الأعمال المشينة. بالتالي، الزبون شريك بشكلٍ أو بآخر؛ أي الرجل الذي يرتضي على نفسه أن يدفع مالاً مقابل شراء الجنس. من هنا أتى عنوان العمل «لا طلب لا عرض»».
في بنائها للنص المسرحي، استندت عسّاف إلى مقابلاتٍ سجّلت مع اللاجئات السوريات اللواتي نجين من تلك الشبكة، فضلاً عن عمل صحافي استقصائي للصحافية ساندي عيسى التي كشفت القضية (من موقع «التحرّي»)؛ ودراسة بعنوان «استكشاف الطلب على الدعارة: ما يقوله مشترو الجنس الذكور» لغادة جبّور مسؤولة قسم الإتجار بالنساء في منظّمة «كفى»؛ إلى جانب نص الاتهام الصادر (في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016) بحق المتهمين في هذه القضية؛ ومقابلات مع المقدّم مصطفى بدران الذي اتخذ قراراً باقتحام بيت الدعارة حيث سجنت النساء. تعلّق عساف: «بعد عرضنا الأوّل للمسرحية، جاءتني إحدى الفتيات ممن عشن هذه التجربة. كانت قد عرفت عن المسرحية عبر الفايسبوك، فجلسنا معنا، وتحدّثنا لساعات، وأكّدت لي ما حدث، وبأن ما وضعناه على خشبة المسرح كان حقيقياً». تقنياً، تلجأ عسّاف في المسرحية إلى تقنية تستخدم ربما للمرة الأولى في لبنان، وهي تقنية «التوصيل المسجّل»، وهو مأخوذ من الكاتبة والمسرحية البريطانية أليكي بلايث، والتقنية قائمة على أن يستمع الممثلون إلى أبطال القصة الحقيقيين، ويكررون ما يسمعونه تمثيلاً بشكلٍ مباشر. بمعنى أنَّ الممثلين على المسرح سيضعون سماعات على آذانهم ويؤدون ما يسمعونه بشكلٍ مباشر. وبعد العرض، سيكون هناك نقاش مع غادة جبّور من «كفى» حول الموضوع.
«المسرحية جاهزة للعرض في أي مكان، وستظل تعرض طالما أن هذه القضية موجودة في المحاكم، وكلما تسنح فرصة، سأعرضها، لأن هذا الموضوع لا يجب أن يموت ويجب أن يحكى عنه دوماً» تؤكد عسّاف. لاحقاً، تتجه عسّاف نحو البحث الأكاديمي، إذ ستعمل على بحث مطوّل بعنوان «إعادة تأريخ أماكن التواجد المسرحي التي هجرت في بيروت»، وستحضّر لعمل مسرحي كبير تفضّل عدم الحديث عنه في الوقت الحالي.