الشارقة | توحي الصور الآتية من «بينالي البندقية» السادس والخمسين على صفحات الفنانين والعاملين في الحقل الفني ممن يقيمون ويعملون في الإمارات (مواطنين أو وافدين) بمشهدية ملحمية تحمل في طيّاتها إحساساً غامراً بالنصر مع كثرة كؤوس النبيذ في الخلفيات. لا بدّ من الاعتراف بأن الوجود في أولمبياد الفنون الذي يقام كل عامين يعّد بحدّ ذاته لحظة فارقة يحلم بها كلّ فناني الأرض، فكيف يكون الفنان الإماراتي استثناءً هنا؟ ذهبت ثلّة منهم في معرض استعادي طُبخ على عجل إلى البينالي. ولكن، كما كان يعزينا عدنان بوظو ومن خلفه في مدرسة التعليق السورية عند كل خسارة يمنى بها المنتخب السوري: «يكفينا شرف المشاركة».وفي زخم تدفق الصور الآتية من اليمن، تبدو محاولة هضم هذا المزيج الغريب من الترف والعبثية أشدّ صعوبةً. في افتتاح «بينالي الشارقة العاشر» عام 2011، نظّمت مجموعة من الفنانين المشاركين يوم الافتتاح تظاهرة صامتة، حاملين لافتات مؤيدة لـ«الربيع العربي» ومستنكرةً لعملية «درع الجزيرة» في البحرين.

تمّ توقيفهم، وتتالت الأحداث لتشهد بعد فترة قصيرة جداً إنهاء خدمات المدير الفني للبينالي آنذاك لأسباب تتعلق بمضمون عمل فني مشارك للجزائري مصطفى بن فضيل. وفي الوقت الذي يعود فيه علي عبد الله صالح للظهور بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي بصفته رمزاً يمنياً فاعلاً في اللعبة السياسية، تستحضرنا حادثة توقيف الفنان الفيلبيني كارلوس سيلدران من قبل سلطات دبي أثناء تقديمه عرضاً أدائياً على هامش معرض «آرت دبي» عام 2012.
التهمة احتواء النص على محادثة افتراضية بين إميلدا ماركوس أرملة الرئيس الفيلبيني الأسبق ومعمر القذافي، إذ تقول إميلدا: «الإسلام هو السلام، وإن تمويلك لحرب ما في بلدي ما هو إلا تأليبٌ لقتل الفيلبينيّ لأخيه، وتحريض المسلم على المسلم. كيف لك أن تدعي بأنك من أتباع محمد؟»
وبعد الموصل ومتحفها، «داعش» تبتلع تدمر في مشهدٍ لا يقلّ عبثاً. حروب كثيرةٌ تحيط بدول الخليج؛ قد يكون بعضها جزءاً فاعلاً فيها أو لا يكون. لكن مرةً أخرى، في خضّم هذه التحولات الكبرى التي تشهدها المنطقة والعالم، يصبح السؤال عن جدوى الفن هنا أكثر إلحاحاً: هل هو امتاعٌ بصريٌ فقط؟ تجيب دبي على هذا التساؤل بوضوح، هي المدينة التي تقدّم نفسها للعالم كوجهة سياحية من الطراز الأول: نعم هو الإمتاع البصري، ولسنا معنيين بطروحات المدارس الفنية والنقدية عن استجابة الفنون لقضايا مرحلية أو وجودية. متصالحة هذه المدينة مع ذاتها لجهة ما تؤمن به وما تقدمه لجمهورها المحلي والدولي مع وجود بعض المحاولات القليلة للخروج عن هذا الاستثناء من هنا وهناك.
كانت أبوظبي قد منعت قبل فترة فناناً ثالثاً من «رابطة فناني عمالة الخليج» من دخول أراضيها. الرابطة معنية بحقوق العمال في موقع بناء حي السعديات الثقافي، حيث من المزمع افتتاح ثلاثة متاحف عملاقة خلال السنوات المقبلة. في هذا الوقت، كان «حي دبي للتصميم» إحدى مبادرات مجموعة «تيكوم» للاستثمارات، يقيم حدثاً ترويجياً ضخماً لزيادة مبيعاته من المكاتب الفخمة للعاملين في قطّاع التصميم مستفيداً من تعطّش أهل المدينة للموسيقى المجانية. لم تتوقف أبداً الأشعار الحماسية وصور الطائرات المقاتلة عن التكدّس أمام المشاهدين في محاولة لاستعادة مجدٍ قوميّ مفقود منذ حرب أكتوبر.
للسياسة دهاليزها ومكائدها التي قد لا يرغب الفنانون المحليّون في الغوص فيها أو حتى التعريج عليها في بلادٍ تعتبر الجنس (العري) والسياسة والدين ثالوثاً محرّماً لا يجوز تناوله في المحافل العامة والفنيّة. يُفهم هذا التخوّف في بلادٍ قد تقصي مبدعاً عن تقلّد منصب رسمي ما، لمجرد مجاهرته بتناول كأس من النبيذ في مكان عام. ولعل الصور المقبلة من البندقية كانت- عن قصد أو غير قصد- احتجاجاً ضمنياً مغلفاً باليأس من التغيير والتمرد على سطوة الأنظمة الأبوية: إنه احتفالية النصر الصغير خارج الديار. «لكل مجتمع خصوصيته». وفي مجتمعاتنا تكثر الخصوصيات وتتكاثر بشكل يومي، لتغدو حرية الفرد هامشية إلى حدّ الإهمال الرياضي. في الفن، أحد أشكال حرية التعبير، سلك العديد من فناني الإمارات مسارات مختلفة لمقاربة هواجسهم والقضايا المحيطة بهم. نجح كثيرون منهم في تقديم ممارسات فنية معاصرة جديرة بالاهتمام والتنويه؛ وبالغ آخرون في انعزاليتهم ونبيذهم. «السخط داخل بلادكم أخطر عليكم من إيران»، قالها أوباما لحلفائه العرب قبيل «كامب دايفد»، وفيها بيت القصيد: لا بدّ لهذا الإنفاق المهول على قطّاعات عدّة- ومن بينها الفنون- أن يترافق مع إصلاحات سياسية ترفع سقف الحريّات وشأن المواطنين والوافدين.