بعيداً عن الملاسنات السنوية حول ما جرى في 5 حزيران (يونيو) 1967، تظل حقيقة واحدة مؤكدة أن وثائق تلك المرحلة لا تزال محجوبة عن الباحثين لتقديم قراءت، وأنّ كل ما كتب يخضع كثير منه للأهواء الشخصية والانطباعات العامة. فقط حكايات وشهادات غير موثقة. علماً أنّه تشكلت لجنة بعد الهزيمة بقيادة اللواء حسن البدري لبحث الأسباب التي قادت إلى الهزيمة، وتم أيضاً حجب تقارير هذه اللجنة!أخيراً، قدم الباحث فطين فريد (أستاذ التاريخ المعاصر في «جامعة قناة السويس») ما يشبه الدراسة الرسمية أو الرواية المصرية لما جرى في يونيو 1967، معتمداً على أرشيف وزارة الدفاع، بحكم عمله السابق في مركز البحث العسكري. وربما تكون هذه المرة الأولى التي يعتمد فيها أحد الباحثين المصريين على هذا الأرشيف المغلق.

قدم فطين دراستين في كتابين تذكاريين. الأولى بعنوان «الضربة الجوية الإسرائيلية عام 1967» الواردة في كتاب «موضوعية الكتابة التاريخية» الصادر عن «دار الكتب الوثائق القومية». والثانية بعنوان «حرب يونيو والقوتين العظميين» نشرت في كتاب «في محبة التاريخ: دراسات مهداة إلى الدكتور أحمد زكريا الشلق» (صدر عن هيئة الكتاب المصرية).
يشير الباحث إلى ثلاثة إجتماعات حضرها عبد الناصر مع القادة العسكريين قبل اندلاع المعارك الأولى يوم25 أيار (مايو)، والثاني في 28 أيار، والأخير 2 حزيران (يونيو). في الاجتماع الأول، قال عبد الناصر إنّ «الضربة الأولى ستوجهها إسرائيل نحو قواتنا الجوية بهدف الحصول على السيطرة الجوية». وقد رفض قائد الجوات الجوية صدقي محمود ما قاله عبد الناصر، قائلاً «إن منظرنا سيختلف كثيراً فيما لو تركنا المبادأة للعدو». لكن القرار كان سياسياً «حتى لا نفقد عطف العالم، وخاصة الولايات المتحدة» كما قال عبد الناصر للقادة المجتمعين معه. في اجتماع 2 حزيران، حدد عبد الناصر بدقة موعد الهجوم الإسرائيلي ( 5 حزيران)، وطلب من قائد الطيران اتخاذ الاجراءات الوقائية الضرورية في القوات الجوية للتقليل من تأثير الضربة الإسرائيلية وتوفير القدرة للطيران المصري على شن ضربة جوية مضادة، وهي الخطة المسمّاة «فهد».
كان طبيعاً ــ كما يكتب الباحث ـــ أن تتخذ قرارات عسكرية عدة في أعقاب هذا اللقاء، مثل ضرورة إخلاء المطارات الأمامية في سيناء من الطائرات حتى لا تكون لقمة سائغة لطائرات العدو. لكن الغريب أن ما قاله عبد الناصر لم يخرج إلى أي قيادة من القيادات الميدانية، واقتصر على حيز المجتمعين، ولم يكن له أي صدى وسط القوات. بل إن قائد القوات الجوية لم يعلِم رئيس أركان القوات الجوية بما قيل فى الاجتماع، وأخبر المشير عامر أن «إعادة الطيارين إلى الخلف قد تؤثر على روحهم المعنوية».
رغم أن عبد الناصر حدد موعد المعركة وتطوراتها، وأهداف العدو، إلا أنّه يبدو
ــ حسب الدراسة ــ أن المشير عامر لم يقتنع بما قاله عبد الناصر. إذ وزع على قادة القوات تقريراً للمخابرات الحربية قبل بدء المعارك بيومين، مستبعداً «قيام إسرائيل بأي عمل عسكري، فالصلابة العربية الراهنة ستجبرها على تقدير العواقب المترتبة على إندلاع المعركة». ومن هنا، أصر المشير على تنفيذ البرنامج المسبق بالسفر الى سيناء صباح الخامس من حزيران في التوقيت نفسه الذي حدده عبد الناصر لبدء العمليات. في هذا التوقيت، كان كل قادة العمليات في سيناء وعددهم 28 في أرض «مطار تماده» انتظاراً للمشير عامر ومرافقيه. وفي الوقت نفسه، كان رئيس الوزراء العراقي طاهر يحيى متجهاً إلى «مطار فايد» في الإسماعيلية للإطمئنان على القوات العراقية الرمزية التي ستشارك في القتال، إلى جانب القوات المصرية. ومن هنا صدرت أوامر عليا بتقيد وسائل الدفاع الجوي بالاشتباك مع أي أهداف حربية خلال الوقت المحدد. وقد لعب هذ الموقف دوراً كبيراً في مستقبل الأحداث وساعد على خلق ظروف غير مواتية للدفاع عن سماء مصر!

أجهزة الاستخبارات المصرية
لم تكن لديها دراية كافية بإمكانيات العدو الحقيقية

تصحح الدراسة بعض الأخطاء الشائعة عما جرى في حزيران، من بينها أنّ الهجوم الإسرائيلي لم يبدأ بضربة جوية، وإنما بهجوم بري في منطقة أم بسيس. وقد وقع الهجوم قبل الضربة الجوية بساعة ونصف الساعة. ويرى الباحث أن القيادات العسكرية المصرية لم تصلها أنباء الهجوم في موعده، وأن ذلك الأمر كان كفيلاً بتغيير سير المعركة: «كان من الممكن أن تتخذ القوات الجوية تلك الفرصة، فتقوم بتنفيذ خطتها الهجومية (فهد) التي كانت قد أعدتها من قبل لضرب القواعد الجوية في جنوب إسرائيل. وكان التوقيت ملائماً، فالعدو بدأ بإطلاق النيران، وبالتالي المناخ السياسي العالمي يسمح لنا بتصعيد الموقف العسكري والقانون الدولي يبيح لنا ردع العدو».
في الوقت الذي كانت فيه طائرة عامر عائدة من سيناء إلى مطار القاهرة، كان عبد الناصر منفرداً في مبنى القيادة العامة، يسأل عن تطورات القتال وتفاصيل خسائر الضربة الجوية الأولى. وقد قدمت إليه في البداية تقارير مرتبكة تحاول التمويه عليه. وعندما وصل التاكسي الذي كان يحمل عامر، لم يكن هناك شيء يمكن أن يتحدثا فيه. ولذا، لا يستغرب الباحث المبالغات الشديدة في بيانات المعركة التي كانت وسائل الإعلام تنقلها يومها: «إذا كانت الحقيقة قد حجبت عن القائد الأعلى للقوات المسلحة، فإنه كان طبيعياً أن تحجب أيضاً عن جماهير الشعب»!
في مساء 5 حزيران (يونيو)، رغم تدمير القوات الجوية وخروجها من الخدمة، فإن القيادة العسكرية لم تفقد الأمل فى الانتصار. كان التقرير الذي قدم للقيادة العسكرية عن نتائج 5 حزيران يقول: «القوات الجوية المصرية تكبدت من الخسائر الشيء الكثير، بحيث أصبحت خارج المعركة، وانتهت قدرتها على التأثير في سير القتال، ولكن الأمور لا تدعو إلى اليأس التام طالما القوات تلتزم بمبادئ الدفاع. وإذا أمكن للسياسيين إحضار طائرات من الدول الصديقة، تستطيع القوات البرية الصمود في سيناء لفترة طويلة حتى يعاد تنظيم القوات الجوية لتعاود القتال». أما الموقف بالنسبة إلى القوات البرية، فـ «لا يدعو للقلق البالغ، أو التشاؤم أو يسبّب إرتباكاً للقيادة العليا لو أتيحت لها الفرصة لإدارة المعركة من ساحة القتال نفسها».
وهكذا كما تكشف الوثائق، فإنّ أجهزة الاستخبارات المصرية لم تكن لديها دراية كافية بإمكانيات العدو الحقيقية، وبالتالي تحليل قدراته: «كان الكثير من المعلومات متضارباً أو قاصراً عن كشف مواطن القوة والضعف، بل أحياناً كانت تبتلع المعلومات المضللة بصورة غريبة». ومن هنا، كانت كل خطط القوات الجوية والدفاع الجوي مجرد حبر على ورق، ولم تدخل حيز التدريب عليها واستيعابها ثم حيز تنفيذها. كان الفزع سيد الموقف، لدى القيادات، ما انعكس على الأفراد في صحراء سيناء، فلم تنظم معركة دفاعية، أو هجمة مضادة، كما لم يخطط منظم كان يمكن أن يجنبنا الكثير من الخسائر في الأرواح والمعدات».
تقدم الدراسة أيضاً استعراضاً ليوميات الحرب على مدى الأيام الثلاثة التي تلت 5 حزيران ليخلص الباحث إلى أن الإهمال، وعدم أخذ الأمور بالجدية اللازمة، وعدم كون القيادة العسكرية على المستوى المطلوب، تشكّل الأسباب التى قادت إلى تلك الهزيمة التي نعاني من آثارها حتى اليوم!
ما قدمه الباحث هنا دراسة من خلال ما توافر له من وثائق. لكن الوثائق تظل متعددة التأويلات، وبالتالي من المهم توفير كافة الوثائق المحجوبة لكل الباحثين، ربما من أجل سردية مصرية توضح حقيقة ما جرى، بدلاً من الاعتماد على وثائق الطرف الآخر، أو ذكريات ومذكرات تخضع لأهواء أصحابها، وذاتيتهم المفرطة!