بعد عرض «زفير» (2015) الذي قدمه الفنان الفلسطيني سيمون شاهين (1955) في بيروت قبل عامين بصحبة شربل روحانا، وريما خشيش وغيرهم من الفنانين، ها هو صاحب «الشعلة الزرقاء» (2001) يعود إلى بيروت عودةً خاصةً هذه المرة. إلى جانب إحيائه أمسية موسيقية على خشبة «مسرح المدينة» في 12 حزيران (يونيو) الحالي، سيُمنح شاهين الدكتوراه الفخرية من «الجامعة الأميركية» في بيروت. التفاتة جميلة، بالرغم من أنها متأخرة. فسفير الموسيقى العربية في العالم، الحاصل على تكريمات وجوائز عالمية عدة، كرّس إنتاجه وحياته في خدمة الموسيقى العربية وصانعيها، ولم يحصل على تكريم واحد في أي بلد عربي من قبل. نعم، نعلم أنّ التكريمات والجوائز هي آخر ما يلتفت إليه فنان لطالما أنتج وأعطى بهدوء، لكن بالطبع أولى للفنان العربي أن يكرم من محيطه العربي.
ابن بلدة «ترشيحا» التي تتربع في قلب الجليل المحتل شمال فلسطين، غادر حيفا عام 1980 متجهاً إلى نيويورك ليكمل تعليمه الموسيقي في «جامعة كولومبيا».

بعدها بعامين فقط، سيؤسس «فرقة الموسيقى العربية» ويبدأ مشواره الطويل لتأسيس قاعدة للموسيقى العربية في أميركا. سينجح في ذلك، وسيستقر في بلاد «العم سام»، وستُفتح له أبواب الشهرة العالمية. لكن صاحب «تراث» (1992) لن يتغرّب ولن يستحوذ عليه الغرب، بل سيؤسس «منتدى الموسيقى العربية»، وسيبقى فلسطينياً مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بتراثه وثقافته العربية. بعدها، سيفك أقفال مدن الضاد بجوازه الأميركي، ويطوف فيها عازفاً ومعلماً.
حين نتكلم عن موسيقى صاحب «تقاسيم» (1993) و«سلطنة» (1996)، لا بد من أننا نعني أيضاً إرثاً موسيقياً واسعاً في غياهب النسيان، غرف منه الفنان وساعد في توثيقه. ولطالما أشار إلى «أنّه لم يخدش بعد». ورغم تدخلات الجاز والفلامنكو التي استعان بها في مسيرته الفنية وتجلت في مشاريع موسيقية عديدة منها فرقته «قنطرة»، إلا أن النصيب الأكبر من إنتاجه كان دائماً من وإلى الموسيقى العربية التي ستتقاطع مع موسيقى ثقافات عديدة، ومع هذا ستبقى في الواجهة دائماً. تأثر شاهين بوديع الصافي، وصباح، وفيروز، وسيد درويش، ومحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم وغيرهم، لكن التأثر الأكبر كان بوالده الموسيقي والمربّي حكمت شاهين. ألهذا اختار إلى جانب الإنتاج الفني مهنة التعليم أيضاً؟ فالفنان النبيل صاحب الشهرة العالمية الذي يعد واحداً من أهم عازفي العود في العالم والكمان في المنطقة العربية على الأقل، بجانب تدريسه الموسيقى العربية في الجامعات الأميركية، ما زال يواظب منذ سنين على الذهاب إلى فلسطين للعمل مع اليافعين والأطفال بكل تواضع وكرم. يجلس معهم ويعلّمهم الموسيقى الحقة، وينخرط مع موسيقيين شباب في مشاريع فنية ويأخذ بيدهم. هل من فنان بحجم شاهين يفعل هذا اليوم؟ ربما، ولكن قلة قليلة طبعاً. بالتوازي مع إنتاجه الموسيقي الأصيل واللافت؛ هذا ما يجعله فناناً استثنائياً في زمن نجوم «الكوميرشال» والأضواء.
حين هممنا بكتابة هذا المقال عن شاهين، توجهنا إلى عدد من الموسيقيين الشباب الذين عملوا معه أخيراً لسؤالهم عن تجربتهم معه. قال لنا أحدهم: «هو حلم الموسيقى في العالم العربي». إجابة سريعة لم تكن عابرة، ولم تأت من فراغ، وتدفعنا إلى التوقف عندها. في وقت تسليع الموسيقى، وموسيقى «الديسبوزابل»، وشركات الإنتاج الخليجية التي تسحق الفنانين وتشوه الذائقة العامة، يبقى شاهين حارساً وخادماً للموسيقى العربية وحاملاً شعلتها بشكل خاص، وللموسيقى التي تخاطب الوعي والوجدان وتنمّي الذائقة بشكل عام.
جمهور بيروت سيحظى بفرصة ثمينة لرؤية سيمون شاهين وأصدقائه الفنانين مجدداً والاستماع إلى نغمات استثنائية لمعلم كبير سيقف على خشبة «مسرح المدينة» ليعزف موسيقى تربط الماضي بالمستقبل، وتذكرنا بإرثنا المنسي.

أمسية سيمون شاهين: س: 21:30 مساء 12 حزيران (يونيو) ــ «مسرح المدينة» (الحمرا) ـ للاستعلام: 01/753010