الرباط | بعض التلفزيونات العربية لا تفكر في شيء، سوى في زيادة نسب المشاهدة على برامجها مهما كانت الوسيلة. ولا يهمها في هذا المسعى التجاري أن تدوس سمعة الناس، وتمرغ أنوفهم بالوحل، وتسيء إلى تاريخهم ومكانتهم الرمزية في غياب تام لأي شكل من أشكال الاحترام والتقدير.
هذا بالضبط ما حصل أخيراً مع الروائي الجزائري الكبير رشيد بوجدرة (1941) الذي وقع ضحية كاميرا خفية اقترحتها قناة «النهار» الجزائرية ضمن برامجها الرمضانية «الضاحكة».
في إطار مقلب تلفزيوني كما جرت عادة العديد من القنوات العربية في رمضان، يتم استقدام صاحب «فوضى الأشياء» إلى مكان التصوير على أساس إجراء حوار حول تجربته الأدبية. يفتتح المذيع «المزيف طبعاً» حلقته بسؤال استفزازي وجهه لبوجدرة، يتعلق بالمبيعات الكبيرة لأحلام مستغانمي وتأثيرها على شريحة واسعة من القراء. لكن يبدو أنّ هذا السؤال الاستفزازي كان أرحم ما في هذه الحلقة، إذ فجأة سيدخل الاستوديو رجلان يفترض أنهما من الأمن. يقدم أحدهما لمعدّ البرنامج مذكرة أمنية تتعلق بالتحقيق مع بوجدرة، ويتوجه إلى الروائي متهماً إياه بالتخابر مع جهات أجنبية وبالإلحاد (كان قد صرّح بإلحاده في برنامج سابق، وسيتراجع عن ذلك لاحقاً). يستنطق هذا الممثل بوجدرة بشكل ترهيبي. وحين يضحك الروائي، ينهره ويتهمه بالاستخفاف من رجال الأمن، مما يجعل بوجدرة يغير ملامحه ويردّ: «ما نضحكش؟ أوك ما نضحكش». وسيقول قبلها: «أنا أحترم الشرطة». وفي محاولة رده على تهمة التخابر، سيصرّح لرجل الأمن المزور: «أنا مضاد للدول الأوروبية، هذا معروف عني»، لتعلق المذيعة بسخرية: «آها! احنا نعرف فقط مضادات الصواريخ».

بيان من المثقفين الجزائريين
يندّد بهذه الداعشية



يسأله أحدهم «هل أنت ملحد؟»، فيردّ: «لا». وحين يكرَّر عليه السؤال، يقول: «أنا مسلم ونصّ». تعلّق المذيعة من جديد: «أنت ملحد ولا مسلم ولا الخوف؟». ثم يطالبونه بصوت آمر وصارم أن يكرر عبارات من قبيل: «الله أكبر»، «لا إله إلا الله محمدا رسول الله» في أجواء لا تختلف كثيراً عن أجواء محاكم التفتيش. ثم يطالبونه برفع يديه معهم للدعاء، وبعد أول جملة يشرعون في الضحك، ليطالبه رجل الأمن بالبكاء، فيرفض. بعدها سيشرع في الدفاع عن زوجته الأجنبية. يسألونه عما إذا كان قد أدخلها إلى الإسلام، فيجيب بالإثبات مؤكداً أنها تنتمي للثورة وليست ضد الجزائر. يطالبونه من جديد بتكرار الشهادة مرة ومرتين. وفي المرة الثالثة يرفض، ويتساءل عما إذا كان هذا العمل إذلالاً مقصوداً له، فيجيبونه بأن السنة تستدعي تكرار الشهادة ثلاث مرات. يستجيب الرجل لهم، وحين يكتشف أنه وقع في مقلب يغضب ويصرخ في وجوههم «قيلوني- فلّوا عني».
يغادر مكان التصوير تجاه سيارة في الخارج وهو يكرر «خبثاء حبثاء». تقول المذيعة بصوت ينمّ عن الكثير من الغباء: «احنا فقط نضحكو معاك، إن شاء الله تسامحنا، وراك شاركت في الكاميرا الخفية». يقول بعدها مقدم البرنامج: «سامحنا بزاف، احنا نحبّوك». يطلبون منه أن يسامحهم، لكنهم يبثون الحلقة، ولا يبدو أنّ الرجل أعطاهم الحقّ في ذلك.
خلفت هذه الإهانة التي تعرض لها رشيد بوجدرة صدى واسعاً في الأوساط الثقافية الجزائرية بالخصوص، إذ أدان الكثير من الكتّاب والمثقفين الجزائريين ما وقع لبوجدرة من إذلال وإكراه على إنكار إلحاده وتكرار عبارات دينية في مشهد لا يختلف كثيراً عن أي مشهد داعشي.
وقد وقّع عدد كبير من الكتّاب الجزائريين أمس بياناً مفتوحاً يندد بما وقع للكاتب الكبير، ويطالبون باتخاذ إجراءات حازمة ضد الذين وقفوا وراء هذا السلوك العنيف والمشين.
اِستهلّ مقدم البرنامج «رانا حكمناك- لقد تمكّنا منك!» حلقته بالجملة التالية: «ضيفنا اليوم قامة أدبية كبيرة في عالم الرواية»، لكنّه لم يكن يدري أنه بهذه السخرية المعلنة كان يسيء هو وزملاؤه والمشرفون على القناة، بشكل جارح، إلى هذه القامة الأدبية الكبيرة.