على عكس ما يُشاع بشأن «موت المجلات» وانتفاء دورها في عصر ما بعد الحداثة، سيلاحظ القارئ العربيّ تهافت هذه الفكرة بعد تأمل بسيط. ترافق تدهور وضع المجلات (الشهرية والفصلية) مع انهيار الاتحاد السوفياتي والسنوات التي تلت ذلك. بدا الأمر كأنّ المجلات العربية كانت مرتبطةً بالضرورة باليسار، ولذا بدأت مرحلة انهيارها مع موت الأب. مع ذلك، لاقت المجلات الأخرى المصير ذاته رغم تباين مواقفها السياسية مع التيارات اليسارية والقومية. وبمقدورنا تذكّر عدد المجلات قبل خمسة أعوام، أو عامين، أو عام واحد، ومقارنتها بما لدينا الآن.
تكاد الساحة العربية تخلو من المجلات عدا تلك المكرّسة المدعومة بميزانية خليجيّة حكوميّة بالضرورة. مع تعاظم دور وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، بدا الأمر كأنّ المجلة باتت ذات دور نافل، بخاصة بعد انتشار التحليلات السياسية والاجتماعية والثقافية والنقدية بحيث باتت مهنة من لا مهنة له. يحتاج الأمر إلى قليل من التفكير فحسب، ليدرك القارئ بأنّ تحليلات الصحافة اليومية التي اعتقدنا بأنّها ستُنهي دور المجلة، ستكون هي ذاتها السبب الأبرز في وجوب عودة المجلات. في هذا العصر بالتحديد لا بدّ من وجبة ضخمة تُهضَم على مهل بدلاً من الوجبات السريعة المعتادة.
أول ما يسترعي الانتباه في تصفح العدد 29 من مجلة «اتجاه» (شتاء وربيع 2015) هو التاريخ. هذه مجلة كانت فصليّة وأصبحت تصدر كل فصلين، تمهيداً ربما للإغلاق أو الصدور السنوي في أفضل الأحوال، بخاصة أنّها تراهن على خطّ سياسي وفكري يعاني من غيبوبة منذ ما يزيد على عشر سنوات: الخط القومي الاجتماعي الذي يتبنّى أفكار أنطون سعاده. ليست المجلة لسان حال جهة حزبية أو رسمية، وهنا تكمن سمتها البارزة الثانية: هي مجلة «منشقّين» أو «مستقلين» عن المؤسسة الحزبية، وهذه نقطة تُحسب للمجلة بلا شك، بصرف النظر عن نقاط الخلاف التي قد يجدها القارئ في المقالات والدراسات. تبدو «اتجاه»، وفق محتويات العدد، مثل الدوريات القومية الاجتماعية الأخرى التي صدرت في السنوات الماضية قبل أن تختفي تدريجاً. تستند المجلة إلى تنوّع كبير في مواضيع المقالات، من دون أن تنسى ترك حيّز معقول للمواضيع الحزبية أو العقيدية الخاصة.

النمط السلطويّ للحداثة
يُفضي إلى قطيعة مع الماضي (الطاهر بن قيزة)

سنجد في هذا العدد مقالين احتفائيين كتبهما عفيف عثمان وعلي حمية عن الفيلسوف ناصيف نصار، وقراءة جديدة لكتاب «صور حاضرة فينيقيا» كتبتها سلام إبراهيم، إلى جانب مقالات ودراسات تاريخية وأدبية لطارق شمس وأحمد عبده العجمي ونعيمة شكر ولؤي زيتوني (بالعربية) وفاتن المر وعماد زين (بالفرنسيّة). لعل أهم مواد العدد كانت محاضرة الباحث التونسي الطاهر بن قيزة «تشكّل الحداثة: تونس نموذجاً»، ودراسة الباحث شحادة الغاوي «في الديمقراطية والديمقراطية التعبيرية». رغم الاختلاف الظاهريّ بين مجالي الورقتين، إلا أنّهما تبحثان في النقاط ذاتها في العمق. يميّز بن قيزة بين الحداثة المفروضة من فوق عبر إرادة سلطويّة، والحداثة الصادرة من تحت من خلال المجتمع المدني والنخب الاقتصادية. يشير إلى أنّ النمط السلطويّ للحداثة يُفضي بالضرورة إلى قطيعة حادة مع الماضي تسبّب صدمة نفسيّة «يتكوّن على إثرها حاجز نفسي يعيق التعامل الهادئ مع قيم الحداثة المقوّضة لأكثر المعتقدات تغلغلاً في المخيال الجمعيّ»، فيما يتسبّب النمط المؤسساتي للحداثة بـ «أزمة فكرية خصبة النتائج حيث تلعب المؤسسات المعرفية والعلمية والاجتماعية دورها في استيعاب مظاهر الجِدّة لإعادة بناء نفسها في سياق التقاليد النقديّة التي تميّز المجتمعات المفتوحة». وبما أنّ الحداثة التونسيّة كانت «فوقيّة»، بوصفها مفروضة سياسياً على يد بورقيبة، يؤكّد بن قيزة أنّ علاقة التونسيين اليوم بالحداثة علاقة خارجيّة، إذ لم تنجح في التغلغل في أعماق السلوكيات والعقليات، وبقيت ظاهرةً تخص المثقفين.
يحاول شحادة الغاوي في دراسته التمييز بين معنى الديمقراطيّة كما درج وانتشر، وبين الديمقراطية التعبيرية الخاصة بأنطون سعاده والعقيدة القومية الاجتماعيّة، في سياق الرد على انتقادات اتهمت عقيدة سعاده بكونها عقيدة دكتاتورية. قد يبدو نقاش الغاوي في هذه الدراسة غريباً، لكنّ أهميته تنبع بالذات من كونه ينطلق من داخل العقيدة القوميّة الاجتماعيّة بكل مصطلحاتها وتعابيرها الخاصة. ينفي الغاوي هذه التهم بالطبع، مستعيداً نقاش سعاده بشأن الديمقراطية حين أكّد سعاده أنّ الفينيقيين سبقوا جميع الشعوب والدول التاريخيّة إلى تأسيس الديمقراطية، لأنهم أسّسوا الملكية الانتخابية وجعلوا الملك منتخباً مدى الحياة (!) ثم يتابع الغاوي حديثه مستغرباً من متهّميه الذين يشاطرون خصوم الحزب رأيهم بشأن دكتاتوريّة الحزب المزعومة، ليؤكّد أنّ سلطة الزعيم (سعاده) المطلقة، وكونه وحده مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية، لا تتعارضان مع مبدأ الديمقراطية «لأن الزعيم حائز دائماً على ثقة أعضاء الحزب جميعهم وحائز على رضاهم وقبولهم وإرادتهم بكامل وعيهم، بل على إيمانهم به قائداً وهادياً للأمة والناس، وهذا الإيمان وهذه الإرادة وهذا القبول والرضى وهذه الثقة هي المعنى الحقيقيّ الناصع للديمقراطية». تنبع أهميّة هذا الخطاب لأنّه يمثّل حرفياً الموقف القومي الاجتماعي من مسألة الدكتاتورية والديمقراطية، وبذا يمكن ببساطة تفسير المواقف الحزبية الرسمية واصطفافاتها ابتداء من أواسط سبعينيات القرن الماضي.
بإمكاننا تخمين المصير القاتم للمجلات المستقلة استناداً إلى مظاهرها الواضحة في الأعداد الأخيرة؛ إذ نجد في حالة «اتجاه» بأنّ جميع الكتّاب المشاركين في هذا العدد هم من «أصدقاء التحرير»، وبأنّ المجلة تُباع بجهود ذاتيّة حين توزَّع على المكتبات، وبذا بوسعنا توقّع أنّ مصير المجلة مرتبط بمصير أسرتها، حيث تبدو كأنها آخر حبل نجاة في هذه الأيام.