الفنان السوري زهير دباغ (1953 ـــ مواليد حلب) يعرض في «آرت أون 56». جملة كفيلة بجعل أي محب للفنون البصرية ينطلق باتجاه الغاليري ليتذوق هذا الكم من التنوع في المواد التشكيلية. هنا يتجاور الطين النضيج (تيرّا كوتّا)، مع الأعمال الورقية، وتنتصب المنحوتات البرونزية حارسة للوحات مختلفة المواد. الزائر سيقف أمام مشهدية متنوعة تغني البصر، وتتيح له متعة قل نظيرها.
يتنقل مع أعمال دباغ منذ عام 1981 حتى اليوم، مع العِلم أنَّ المعرض ليس استعادياً. فقد تعرّض مرسم الفنان للدمار والتخريب والتحطيم، وأخذتِ الحربُ السورية في جرفها أعمال ثلاثين عاماً من التشكيل! لكن زهير دباغ ما توقف عن الإنتاج، بل زاد إصراراً، فالخلق التشكيلي هنا يواجه آلة الحرب التدميرية.
في الصالة الكبرى للغاليري، تتجاور اللوحات المولودة حديثاً تحرسها المنحوتات القديمة والجديدة. «يهمني أن يرى الناس هذا الجسر الطويل من تاريخ الأعمال، خاصة أنني خسرت أعمالي في هذه الحرب.

تتجاور اللوحات المولودة
حديثاً مع المنحوتات القديمة والجديدة
هنا مثلاً منحوتاتي القديمة التي أنقذتها من عند أصحابي ونسخت عنها كي أري صورة عملي للناس، وكيفية مساره وتطوره». يقول دبّاغ لـ «الأخبار». رغم انتشار لوحاته على جدران الصالة، إلا أنّ الفنان الجادّ مصرّ بشغفٍ على تقديم نفسه كنحات أولاً: «أنا نحات، أقدم نفسي دائماً كنحات! علاقتي بالنحت قوية، ومتينة. اهتمامي بالرسم طوال عمري، كان موازياً للنحت. نعم عندي شغف باللون والخط. وهذه الحرية التي أتمتع بها، والتلقائية والعفوية في اللوحة، هما اللتان شدتاني كثيراً للرسم وجعلتاني لا أنزاح عنه، ولا أتركه طويلاً. لكن النحت يعطيني هويتي، ويري للناس إمكانياتي أكثر، كما اهتمامي بالخامة وعلاقة القطعة بالظل وبالنور وبالطبيعة وبالفراغ حولها. فالنحت يعطيني سعادة وغبطة فظيعة وبهجة بالإنتاج!» على حد تعبيره. خلال الجولة بين صالات المعرض، يشرح دباغ لمَ اختار نحت الثور هنا دون سواه، رغم أنّها ليست المرة الأولى التي يُدخل فيها هذا العنصر التشكيلي في أعماله. هنا ثوران من البرونز، «رقم واحد» و«رقم اثنين». الفنان لا يحب متاهات العناوين والتسميات: «رقم واحد، لأنني بدأت نحته أولاً. وهو فعلياً هذا الثور القوي الذي يطعنونه، ويبقى واقفاً صابراً يقاتل ولا يريد أن يقع، ولا يموت حتى يطلقوا عليه رصاصة الرحمة». هواجس ترميزية فنية لا تقل أهمية عند دبّاغ عن هاجس إيصال الانفعال التشكيلي الحقيقي والطازج للمتلقي. يشعر معها الرائي بالرغبة في الاقتراب من العمل وإكمال تكوينه. «هذا الملمس من أهم الهواجس التي تشغل بالي، سواء في الرسم أو بالنحت. ولذلك، أستعين بالخامات حولي. يهمني أن أبقى على تلامس مع المتلقي. وهذا الملمس هو الذي يعطيني القدرة على تحريض الآخر على التذوق أو قراءة العمل الفني». يكمل دباغ الجولة باتجاه منحوتة الثور الثاني البرونزي «المنتصر» بحسب الفنان، ثم إلى الغرفة المجاورة حيث منحوتة «الشاعر» البرونزية التي تنقل لنا ضربات اليد السريعة المتمكنة لزهير دباغ على الطين قبل أن يسكبه برونزاً.
لكن المفارقة أن منحوتة الشاعر محاطة بكم من اللوحات على الجدران، فما هو جذرها؟ من أين بدأت هذه اللوحات؟ ألم يقل لنا إنّه نحات بالأساس؟ وما الصلة عنده بين الرسم والنحت؟
«أنا شخص مجرب، وأقول دوماً إنني لم أنتهِ من التجارب. أستحضر معي دائماً هذا الإحساس القديم عندما كنّا أطفالاً. كنت أسكن قبالة قلعة حلب. والقلعة مبنية على جبل من الحوار، فكنت آخذ الحوار وأنحت منه بالموس وبالسكين. ترافقني دوماً هذه المتعة الفظيعة والجماهير حولي من الأولاد. هذا كله كان يغريني ويعزز حالة الاكتشاف عندي. والقصة عينها مع الرسم، كنت أذهب وأسرق الفحم من منقل جدتي، وأصعد على الجدران وأرسم أمام الأولاد! كانت لي انتصارات هائلة أمامهم، باعتبار أنني أرسم أمامهم مباشرة، أرسم عصفوراً وجملاً وهكذا» يضحك من كل قلبه ويكمل شرحه المجبول بالحنين: «هذا الخط، أو هذا الشعور، أسعى دوماً لأن أستعيده، وأشعر بالحلم به، لأنه كان مسرحاً جميلاً جداً أمامي لأكون خلاقاً وحراً وسيداً أمام ما أصنعه».
شرح يبرر بوضوح هذه الخطوط في لوحات دباغ التي تشكل البنيان الهيكلي الضابط لإيقاع لوحاته. «الخط بالنسبة إلي ذو قدسية كبيرة. لأنني في اللوحة أستحضر النحت. والحقيقة أنّنا لو رأينا التخطيطات السريعة لأي نحات، سندرك مباشرة أنه نحات. هي القصة عينها مع لوحاتي هنا. فقد أتت هذه الصيغة البصرية من اهتمامي العالي بالخط ورهافة النحات معاً. الخط عالم مستقل وساحر وله ألَق. لكن الخط عندي يستحضر من ذاكرتي الإحساس بالكتلة أيضاً، والإحساس بالضوء على هذه الكتلة. حتى حركات الأشخاص في اللوحات، تشعرين أنّها تكوينات قابلة لتكون منحوتات. كأنك تضعين منحوتاتك في جو ملون لتصول وتجول وتخلقي لها مكاناً».
من هنا، ينطلق دبّاغ للحديث عن شغفه الآخر، اللون، ومنه إلى شرح الشخوص في لوحاته: «هذا الإحساس يغريني دائماً بالعبث باللون. اللون حالة خرافية موجودة في الطبيعة! إذا تمكن شخص ـ ليس بالضرورة أن يكون فناناً ـ من أخذها على محمل الجد، فهي مادة غنية بالشعر وبالحالات البصرية اللامتناهية. هي التي تقدم رسائل للآخر تماماً كالكلام وكل وسائل التعبير الأخرى. هذه الشخوص الحائرة الساهمة الواجمة الواقفة بدون حراك نراها أحياناً أكثر تفاعلاً رغم سكونيتها مع أوساط محيطة فيها، وأحياناً أكثر حيادية ووحشةً في عالم ممتلئ بالآخرين. هؤلاء هم نحن! هم عذابنا الجديد المحيط بنا. الحضارة أفرزت أزمات متلاحقة على الفرد. تهمني هذه الوحدة المرتبطة بالفرد، بالشخص. ولكن أحياناً، أصر عليه أن يقف مع الآخرين، لكن سرعان ما أجده وقد عاد إلى نفسه».
شخوص يرسمها دباغ بالسكين لا بالريشة تماماً كما ينحت، بذات الرهافة والهاجس بالملمس الذي يعتبره حالة غنىً تكثف قوة العمل، خاصة تحت الضوء، فيستقبل الملمس الظل والنور ويغير الأثر الخاص باللون. اللون يكون حيناً المحفّز للعب ولصناعة الملمس البصري، وأحياناً لتناول الخامات الأخرى. ويعني هنا بالخامات الأخرى كل ما يمكن أن يقع تحت يد دباغ من مواد غير اللون، يضيفها إلى عجينته اللونية، لتكون محفزاً إضافياً للرائي حتى يكمل اللوحة. اللوحات متعددة القياسات، أغلبها مربع صغير، لا تتعدى الـ 50 سنتيمتراً مرصوفة كالموزاييك على حائط الصالة حيث منحوتة «الشاعر». لكن الصالات الأخرى احتضنت عشرات اللوحات الأكبر حجماً بكثير. كما احتضنت الصالة الوسطى اللوحات الورقية العزيزة على قلب دباغ: «الاختراع الأول غير حيطان الكهوف الذي استطاع الإنسان عبره أن يسجل رسائله المصوّرة هو الورق! ما زالت لعبة الورق لعبة جميلة للفنان. هنا مثلاً صنعت تركيبة هذا الورق. مزّقته وجزأته وجمعته بالطريقة التي تخدمني وفي الوقت عينه عالجته بإضافات كاللصق/ الكوللاج والعجائن النافرة البارزة. الورق مادة نبيلة جداً، قابلة للعمل معها، وتغييرها وتبديلها، وتعطي إمكانيات مذهلة في الإبداع. علاقتي بها حميمة، فهذه الخامة شديدة الوفاء للفن، شديدة العطاء، مخلصة وقوية». يقول دبّاغ، وهو يشير إلى تلك الأعمال الورقية التي غالباً ما يتلامس فيها إحساس المائيات/ الأكواريل مع خامات النحت البارزة، كتلك التي تقف قبالتها في الصالة من طين مشوي أو تيرّا كوتّا، أو بالمصطلح التقني «طين نضيج». وهو تاريخياً الوسيط الأقدم الذي استخدمه الإنسان عبر التاريخ، بعد العصر الحجري ومع تطويع النار ليشكّل به. وتجربة زهير دبّاغ مع التيرّا كوتّا ليست حديثة، وكيف تكون كذلك وهو نحات؟ «منذ طفولتي وأنا أشكّل في الطين. أرى فيه إمكانية عالية للخلق والتواصل مع الآخر، بشكل صريح ومباشر وشاعري وحساس. الطين خامة تحمل رسائل قوية وصريحة وحقيقية للآخر. لا مجال للافتعال أو إعادة النظر، خاصة في هذه الأعمال. كل عمل صنعته بجلسة واحدة لم يتخللها حتى كوب شاي! لذا أراه أكثر تعبيراً من سواه. في الحقيقة، هذه الأعمال هي الصورة التي أريد أن أقدمها، هي أنا، والطين عندي هو سيد اللعبة!». يضيف في شرح المضمون أنّ الموضوع المعالج إنساني، وشفاف، هم الناس المظلومون المعذبون الذين هم في الوقت عينه المحاربون والمقاتلون والمحتجّون. لكن كلهم من عجينة وطينة واحدة. «هؤلاء يمثلونني. يمثلون الناس الذين أحبهم. يمثلون قربي وعلاقتي مع الأشخاص حولي. كما يمثلون احتجاجي على الظلم وغضبي على كل الظلام في الدنيا. وهذه المجموعة من الشخوص تشكّل سيرة واحدة. يؤلفون هذا الشيء الأسطوري الذي فقدناه ونعيشه معاً. فما فقدناه كان أسطورياً وممتعاً وفيه حرب وسلام وانتصارات وكل شيء. وهذا أيضاً فيه كل شيء، هذا القهر المطبق علينا الذي يحاول ليّ أعناقنا، ونحن نرفض».
قطع طينية مشوية تقف متراصة لتبني سيرة جديدة لمرحلة الحرب، يتردد صداها على نسخات برونزية في الصالة نفسها. لكن الفنان يصر بشغفه الطفولي أنّ «حضور الطين مبهج!». يختم بالروحية نفسها وبلهجته السورية الحلبية: «الحرب قذرة! لكن ما زال عنا أحلام، وأمل بإنو نرجع على اوطاننا ونعيد تألقها وحضورها!».

معرض زهير دباغ: حتى الغد ـــ Art on 56th الجميزة، بيروت ــــ للاستعلام: 01/570331