«لغة ربيعية» هو المعرض الفردي الخامس لفتاة بحمد (1973) في «آرت سبايس حمرا». وهو باختصار عُلب ألوان زيتية منفجرة على عشرات اللوحات والكثير من الضوء والبهجة، أقرب إلى احتفالية بألوان الطبيعة على مساحة اللوحات. كأن اللون المنعكس بالريشة على اللوحة، هو أبعد من حدود الانطباع والتعبير، وإنما التوأم الروحي لذلك العرس الضوئي. لغة لونيّة قلَّ ما تتمتع بها عيون أبناء المدن، وربما يربطها بعضهم بتعشُّق النور في كل «حنايا» القرى، فيتولد أُنسٌ خفيّ في نفوس الرائين.
ألوان تنقلها فتاة بحمد من حديقتها ومحترفها في قرية «كفرملكي» الجنوبية إلى قلب شارع الحمرا، كمن يغرس على شرفة بيته المديني «الباطوني»/ (الاسمنتي) بعضاً من أملٍ بجرعة عطر حديقة صباحيّ. «أتبَعُ الطبيعة من دون أن أستطيع اللحاق بها. ربما أنا مدينٌ للأزهار بأن أصبحتُ رساماً» يقول مؤسس المدرسة الانطباعية كلود مونيه.

هل هو الربيع عينه، لغة التشكيل في كل قرى الدنيا؟ هل هي الأزهار نفسها، أبجدية التشكيل الانطباعية الأولى في كل بقاع الأرض؟ كيف تغرس الورود على المساحات المسطحة لتثمر معارض حتى اليوم؟ بمَ تسقي فتاة بحمد حديقتها التشكيلية لتصبح بهذا الخصب؟
«أعيش في ضيعة جنوبية، واللوحات المعروضة اليوم كلها من مكان واحد، في بيتي وجنينة البيت، في مكان صنعته كله تقريباً بيديّ. لكن في عملي، لا أضع في بالي أن لديّ معرضاً ويجب أن أجهّز فكرة. بكل بساطة، لدي شيء واضح، أنا أحب اللون! وكل تجربتي لها علاقة باللون أكثر من الموضوع بذاته. نعم يصادف أنني أعيش الآن في هذه المنطقة، وسابقاً كنت أرسم ما أراه حين كنت في بيروت. المواضيع تكون دائماً انطلاقاً من الأماكن التي أعيش فيها ومحيطها. هذه المواضيع تستفزّني كي ألوّن، لكنني لا أجهد نفسي في التفكير بمضمون ما أرسم» هكذا تبدأ فتاة بحمد تعريفها لعملها. أمر يذكرنا بتعريف الفنان الانطباعي العالمي بيار- اوغوست رونوار للانطباعية: «الأهم في تيارنا (الانطباعية) أننا حررنا اللوحة من أهمية الموضوع. أنا حرّ بأن أرسم الأزهار وأسميها أزهاراً من دون أن يكون لها حاجة في قصة».
تلعب فتاة بحمد على عناصر بصرية عدة، صنعتها وركبت مضامينها في حديقتها ومحترفها الشخصي في كفرملكي بغير قصد رسم المضمون أو حتى الرسم بحد ذاته. المفارقة أنك تكاد تتنشق عطر تلك «اللغة الربيعية» المنتشرة من زهور حديقتها في صالة العرض. أو ربما هو عطش الروح إلى ذلك الأنس «الأخضر» في بساتين القرى. لكن فلسفة فتاة بحمد التشكيلية قائمة على عناصر أقرب إلى «لغات اللون» من «لغات الفصول». الأخيرة هي شوق المُتلقّين، والأولى هي إتقان التشكيليين.

فلسفتها التشكيلية قائمة
على عناصر أقرب إلى «لغات اللون» من «لغات الفصول»


«أنا لا أرسم، بل ألوِّن. وكل ما أريد أن أقوله أقوله عبر اللون!» تضيف فتاة بمصارحة قلبية. «هي هكذا تجربتي دائماً، لها علاقة بالالوان، بالعلاقات اللونية، بحبكة اللون.. أكثر مما هي بموضوع أو فكرة. عندما أبدأ العمل، أكون في حالة بحث عمّا يخص الألوان، وليس عن إيصال فكرة موضوع معين. ربما للصدفة أنني أحب الطبيعة، وأنا بالطبع أتعلم منها. لكن لو أنني كنت في مكان آخر فربما ما كنت سأرسم الطبيعة. لذا فهذه الأعمال اليوم هي نتاج وجودي في هذا المكان بالذات».
عشرات اللوحات الزيتية المزهرة على جدران «آرت سبايس»، تظهر في بحر كلٍّ منها - بشكل شفاف- خيوط الفحم الذي رسمت به فتاة بحمد أولى خطواتها نحو طريق البَوح باللون. ثم نرى طبقة من مزيج اللون المخفف، كوظيفة الستائر الحريرية الشفافة داعيةً للاسترسال في النظر بدل الحجب، وصولاً إلى زبدة اللون في ضربات ريشة متعانقة على اختلاف ألوانها من هويات الأزرق والأخضر بمختلف تدرجاتهما، إلى الأصفر بقيم لونية متفاوتة، وما بينها من أحمر صاعد أو نازل على سلم الدرج اللوني. ألوان ترسم للرائي منظراً طبيعياً هنا، أو داخلياً أليفاً هناك. من أفق لوحة شباكٍ مشرف على الدنيا، حيث ينشر الضوء أطياف ظلاله الملونة على الطاولة، إلى لوحة المزهريات الزجاجية بخياراتها اللونية المتعددة وصولاً إلى لوحة الشرفة بكرسيها الزهري الطبشوري فلوحات الحديقة المزهرة بأوج زينتها.
«بالطبع لم أرسم اللوحات كلها في فصل الربيع! ولست طيلة الوقت فرحة مبتهجة! أو هي هكذا اللوحات عموماً، فلننظر مثلاً إلى أعمال فان غوغ، رغم كل المآسي والعذابات التي طغت على حياته، إلا أنّ أحداً لا يستطيع أن يرى لوحاته إلا بفرح! هناك أمور حقاً لا أفهمها، في أعمالي.. لا أفهم لم الألوان فرحة إلى هذا الحد؟! في كل الحالات وكل الفصول. فأنا لست أرسم في الربيع حصراً، أبداً. ولكن الأعمال مشغولة بطريقة تشبه الربيع، بهذا الفرح والأمل. وربما لهذا السبب كان عنوان المعرض: «لغة ربيعية»».
هنا إذاً نموذج فنانة منغمسة في مساحة اللوحة رغم ضغط الساحة الفنية باتجاه التشكيل المفهومي. تتمسك فتاة بحمد بالمساحة المسطحة، باللوحة، بالريشة، باللون. رغم اتجاه الفنانين الشباب إلى التخلي عن معظم الأدوات التشكيلية البنيوية هذه، لصالح المفهومية والتيارات ما بعد الحداثوية. تعيش فتاة بحمد حياتها كفنانة تشكيلية بكل ما في طقوس المرسم/ المحترف من متطلبات. لا لعناد أو صراع أو موقف، بل لشغف وانتماء للأبجديتها البصرية. تحضّر القماش والخشبات، تشدّ اللوحات، ثم تؤسس القماشة التي سترسم عليها، تبدأ الرسم مع الصباح ولا تتوقف إلّا عند حلول الليل، بانتظام ولوقت طويل. تثابر خريجة معهد الفنون الجميلة على تلك الطقوس، رغم علمها أن ذلك يأخذ جهداً ووقتاً على حساب حياتها الاجتماعية: «ألغيت كل شيء آخر من حياتي تقريباً. لا حياة اجتماعية فعلية لي. إلى هذا الحد أنا مأخوذة بالفن التشكيلي».

«لغة ربيعية» لفتاة بحمد: حتى 18 أيار (مايو) ــ «آرت سبايس حمرا» (مبنى الكوستا- الطابق السادس) ـ للاستعلام: 01/736516