يكشف كتاب «عبدالكريم الخليل: مِشعل العرب الأول 1884-1915» أنّ غالبية هذه الشريحة المذكورة كان أعدها عبدالكريم الخليل وعبأها ونظمها قبل عشر سنوات منذ عام 1905 من خلال جمعيات سرية أبرزها «الشبيبة العربية» في أهم مدن بلاد الشام، وعلنية أهمها «المنتدى الأدبي» في إستانبول. وكان الخليل حدّد ساعة الصفر لثورته لتنطلق من دمشق صيف 1915، لتكون ثورة عربية خالصة من دون أي تعاون مع القوى العظمى آنذاك، بريطانيا وفرنسا، باعتراف أحمد جمال باشا نفسه الذي قال في مذكّراته: «كانت سوريا في ذلك الوقت على أسوأ حالة وأشدها خطراً، فقد نزل الإنكليز والفرنسيون إلى الدردنيل وجعلوا يصعِّدون هجماتهم العنيفة كل يوم، وتلبية لرغبة القيادة العليا أرسلتُ إلى الآستانة الفرق الثامنة والعاشرة والخامسة والعشرين التي كانت في سوريا ولحقت بها في ما بعد فصائل الرشاشات بأسرها، وبالاختصار أرسلت كل الرجال والمهمات التي طلبها الدفاع عن الدردنيل، وكان متعيناً عليّ أن أحافظ على النظام الداخلي في تلك المنطقة الممتدة من جبال طوروس إلى المدينة المنورة وأحمل (وأحول) دون إنزال أية جنود معادية. كل ذلك في حين أنني لم يكن لدي سوى فرقة أو اثنتين من العرب وكتيبة من متطوعي المولوية الدراويش... فلو نشبت وقتئذٍ ثورة في جبهة من الجبهات بفعل الدسائس الأجنبية لما كانت ثمة وسيلة تمنعها ولفقدت الحكومة العثمانية سائر ولاياتها العربية. فلو ضمن الإنكليز أو الفرنسيون مساعدة الأهالي (أي جيش عبدالكريم الخليل) فأنزلوا فرقتين في أي نقطة على الساحل السوري مثلاً في بيروت أو حيفا، لوجدنا أنفسنا بلا جدال في موقف اليأس التام. ولكن نظراً إلى الثقة العظمى التي وضعتها في الأهالي لم أتردد في أن أنيط بالجنود العربية سلامة البلاد وأترك المناطق الساحلية بلا مراقبة... وإني لعلى يقين بأن الإنكليز لو دخلهم أقل ارتياب في ولاء أهالي سوريا وفلسطين الملكيين لما ترددوا لحظة في إنزال جنودهم. ولم تكن بدأت بعد أعمال الخيانة من الشريف حسين. كما أنني ما كنت أعرف شيئاً عنهم (أي عن ثوار عبد الكريم الخليل)... ».
وفي مخطوطات المؤرخ عجاج نويهض، يتحدث أحد قادة الثوار الذين كان يعتمد عليهم الخليل في ثورته من دمشق، سليم عبد الرحمن إلى المؤرخ في عام 1955، ويقول:
«في ذات ليلة (لم يحدد التاريخ) كنت ماشياً في ساحة المرجة. فلحق بي شخص، وقال أن أذهب وأرى عبدالكريم قاسم الخليل، الموجود الآن في «مقهى الزهرة»، وأن أقابله في فندق إنكلترا في نصف الليل. فذهبت فوجدت عنده توفيق الحلبي، وهو من أبناء الشام، وثلاثة شباب لم أعرفهم. فأنهى حديثه معهم وانصرفوا.
«وبعد شرب القهوة جلسنا نحن الثلاثة معاً. فوجّه سؤالاً إلى الحلبي: كم عدد أفراد الشرطة الترك في دمشق؟ وعدد العرب؟ وكم لدينا من الذين نستطيع الاعتماد عليهم (للقيام بعمل عسكري)؟ فأجابه: الترك نحو 100 بوليس و300 أولاد عرب بوليس، ومديرهم توفيق بك - تركي قبيح - وأمّا الشبان الذين نستطيع أن نلبسهم أثواب شرطة ودرك، فلا أقل من 800 شخص أو شاب. «ثم التفت عبدالكريم إليّ وقال: أخي، نحن اتصلنا ببعضنا كثيراً واجتمعنا، والثقة متبادلة. وقد أيّد الإخوان وجوب مفاتحتك لتقوم بإبلاغ جميع ضباط الخدمة المقصورة، أن يتمردوا على الذهاب إلى جناق (جنق) قلعة ومختلف الجهات. وعليهم أن يبقوا في دمشق وضواحيها. نؤمِّن لهم أماكن الاختفاء لأننا مقبلون على القيام بثورة في دمشق وتوابعها وإعلان استقلال الولايات العربية استقلالاً تامّاً. وسنبدأ بالاستيلاء على دار الولاية (مقرّ الحكومة) والقشلة (الثكنة) الحميدية ومقرّ قيادة الجيش بواسطة الجنود العرب. وتناصر هذه الثورة، قوانا في السواحل، وتشكيلاتنا في الداخل، لأنا نخشى أننا إذا لم نعلن انفصال ولايتنا عن تركيا أن تحتلّ فرنسا بلادنا وبريطانيا العراق. وقد يتساهل الترك في عقد الصلح بين الدولتين مضحّية بالبلاد العربية ليسلم الأناضول. فرجائي إليك العمل أنت وإخوانك بكل ما أوتيت من قوة لعدم خروج ضباط الخدمة المقصورة من سوريا على الأقل».
وفي هذه الفترة تحديداً، كان شريف مكة بدأ اتصالاته مع البريطانيين في ما عرف لاحقاً بـ «مراسلات حسين- مكماهون» نبه إلى تبادل الرسائل بينه وبين المفوض السامي البريطاني في مصر السير هنري مكماهون لتحديد مستقبل البلاد العربية بعد طرة العثمانيين. «لا يحتاج كلام عبدالكريم الخليل في لقائه سليم عبدالرحمن إلى توضيحات كثيرة، لكن من المهم الإشارة إلى أن هذا اللقاء، الذي لم يذكر عبدالرحمن تاريخ حصوله، جرى بالتأكيد بعد 19 شباط (فبراير) 1915، لأن الخليل طلب من عبدالرحمن إبلاغ جميع ضباط الخدمة المقصورة، أن يتمردوا على الذهاب إلى (معركة) جناق قلعة ومختلف الجبهات... والثابت أن معركة جناق قلعة بدأت بعد هجوم شنته البحريتان البريطانية والفرنسية يوم 19 شباط على هذه المنطقة المطلة على مضيق الدردنيل.
«والمرجح أن هذا اللقاء حصل في النصف الأول من نيسان أو خلال أيار (مايو) 1915. لأن الخليل أمضى نهاية شباط ومعظم آذار في القدس وبئر السبع مع جمال باشا، ثم مع الضباط العرب، وكان يعقد سلسلة اجتماعات في صيدا وصور في نهاية نيسان.
«ونستفيد من حديث عبد الرحمن أيضاً في هذا اللقاء، أن عبدالكريم الخليل:
1- أعد خطة عسكرية شاملة للثورة في بلاد الشام انطلاقاً من دمشق «وإعلان استقلال الولايات العربية استقلالاً تامّاً» بحسب تعبيره.
2- جهز تشكيلات عسكرية من المتطوعين في صيدا وصور وجبل عامل. لكن لم تظهر معلومات، حتى الآن، عن استعداداته في فلسطين والعراق، حيث كان له أنصار وفروع لجمعيته.
3- ترتيباته اللوجستية شملت تأمين أماكن يختبئ فيها الضباط والجنود العرب في دمشق إلى حين استدعائهم في ساعة الصفر للثورة.
4- حدد نقطة انطلاق الثورة بالسيطرة على المرافق الحيوية في الدولة. وأشار إلى دور للجنود العرب، وهؤلاء غير الضباط والجنود في الخدمة المقصورة الذين طلب من عبدالرحمن إبلاغهم التمرد وعدم الذهاب إلى جناق قلعة: «وسنبدأ بالاستيلاء على دار الولاية (مقرّ الحكومة) والقشلة (الثكنة) الحميدية ومقرّ قيادة الجيش بواسطة الجنود العرب».
5- تحدث عن دور للمتطوعين والتشكيلات العسكرية في الداخل وفي السواحل (ربما شملت بدءاً من اللاذقية حتى عكا ويافا بما في ذلك طرابلس وبيروت وصيدا وصور).
6- وفي الجانب السياسي من حديث الخليل، كان لافتاً قوله: «لأنا نخشى أننا إذا لم نعلن انفصال ولايتنا عن تركيا أن تحتلّ فرنسا بلادنا وبريطانيا العراق. وقد يتساهل الترك في عقد الصلح بين الدولتين مضحّية (مُضحين) بالبلاد العربية ليسلم الأناضول». ما يعني أن ثورته لم تكن فقط للانفصال عن الدولة التركية، بل أيضاً لحماية البلاد العربية من احتلال بريطاني - فرنسي محتمل، وهيأ وسائل القوة لمقاومته. وهنا تظهر الرؤية الثاقبة، السياسية والاستراتيجية العميقة لهذا الرجل، فعلى الرغم من أن الحرب العالمية الأولى كانت في بداياتها، لكنه أيقن أن الدولة العثمانية قد تتساهل في التضحية بالبلاد العربية لتحافظ على كيانها التركي، وتسمح لبريطانيا وفرنسا باحتلال البلاد العربية. وحصل ما كان يخشاه عبدالكريم الخليل بعد استشهاده».
وأستحضر هنا ما ذكره في هذا الشأن كاظم إسماعيل الخليل في مذكراته التي تضمنت نشاط والده، إلى جانب عبدالكريم وحركته السياسية. ويقول بعد أن يشير إلى اجتماع سري عقده عبدالكريم في صور ضم عدداً كبيراً من الشخصيات الفاعلة:
«... ومن أهم المقررات التي اتُّخذت خلال الاجتماع، قرار باستعمال الفرق الأهلية المسلحة التي نظمت في المناطق الساحلية لأجل حماية الشواطئ البحرية من غزو الحلفاء لها... ». ما يعني حرص عبدالكريم تكليف أبناء الساحل مهمة المقاومة المسلحة في مواجهة أي محاولة غزو بريطاني أو فرنسي، وفي الوقت نفسه يستعد لإسقاط الدولة في الداخل السوري.

* مقتطفات من كتاب يوسف خازم «عبدالكريم الخليل: مِشعل العرب الأول 1884-1915», الذي صدر أخيراً عن «دار الفارابي»




عيد الشهداء

قبل أن يصبح «عيد شهداء الصحافة»، كان «عيد شهداء السادس من أيار»، لعقود، مناسبة وطنية وقوميّة، يحتفل بها في لبنان وسوريا. يُمثل هذا اليوم ذكرى استشهاد نخبة من المثقفين والمفكرين الوطنيين العرب شنقاً في بيروت ودمشق والقدس، عقب سلسلة أحكام جائرة بالإعدام أصدرها الحاكم العثماني أحمد جمال باشا في حقهم، بين 1915 و1917، فأعدم عدد منهم فُرادى على فترات متباعدة، فيما أعدم 11 ضمن قافلة أولى و22 في قافلة ثانية. كان إعدام القافلة الأولى يوم 21 آب 1915 وعلى رأسها الشهيد عبد الكريم الخليل في ساحة البرج وسط بيروت (ساحة الشهداء اليوم)، والقافلة الثانية في 6 أيار (مايو) 1916 في الساحة نفسها، وفي دمشق في ساحة المرجة. واختير يوم السادس من أيار للاحتفال بالمناسبة لأنه اليوم الذي أعدم فيه أكبر عدد من الشهداء. واتهم أحمد جمال باشا هؤلاء الشهداء بالعمل لإنهاء الحكم العثماني في البلاد العربية. هنا أسماء الشهداء وتواريخ إعدامهم وأماكنها:
القافلة الأولى من شهداء 21 آب 1915:
عبد الكريم قاسم بن محمود الخليل (من الشياح)، محمد المحمصاني، محمود المحمصاني (بيروت)، عبد القادر الخرسا (من دمشق ومقيم في بيروت)، نور الدين بن الحاج زين القاضي (بيروت)، سليم أحمد عبد الهادي (من قرية عرّابة التابعة لنابلس في فلسطين)، محمود محمد نجا عجم (بيروت)، الشيخ محمد مسلّم عابدين (مأمور أوقاف اللاذقيّة)، نايف تللو (دمشق)، صالح حيدر (بعلبك)، علي محمد الأرمنازي (حماة).
القافلة الثانية من شهداء السادس من أيار في بيروت: جورجي الحداد (جبل لبنان)، سعيد فاضل عقل (الدامور)، عمر بن مصطفى حمد، عبد الغني بن محمد العريسي (بيروت)، الشيخ أحمد بن حسن طبارة (إمام جامع النوفرة في بيروت)، باترو باولي (يوناني الأصل من مواليد بيروت) محمد الشنطي اليافي (يافا)، توفيق بن أحمد البساط (صيدا)، سيف الدين بن أبي النصر الخطيب (دمشق)، علي بن عمر النشاشيبي (القدس)، محمود جلال بن سليم الآمدي البخاري، سليم بن محمد سعيد الجزائري الحسني، أمين لطفي بن محمد عبد قسومة الحافظ (دمشق)، عارف بن محمد سعيد الشهابي.
القافلة الثانية من شهداء السادس من أيار في دمشق: شفيق بن أحمد المؤيد العظم (دمشق)، الشيخ عبد الحميد بن محمد شاكر الزهراوي (حمص)، الأمير عمر بن عبد القادر الجزائري، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، سليم الجزائري، شكري بن علي العسلي، عبد الوهاب بن أحمد المليحي الملقب بـالإنكليزي (دمشق)، رفيق بن موسى رزق سلّوم (حمص)، رشدي بن أحمد الشمعة (دمشق).