بعد يومين على دفن أسطورة الروك ليمي كيلميستر (1945 ــ 1915)، غادرنا «جوكر» آخر هو ديفيد بووي (1947 ــ 2016). أحد آخر رسل نوستالجيا السبعينيات، انطفأ كـ «نجمة سوداء»، عنوان ألبومه الأخير الذي صدر أخيراً تزامناً مع عيد ميلاده التاسع والستين. التحق مستر بووي بالفضاء، إذا أردنا تقفي خطوات رائد الفضاء «مايجور توم» في إحدى أولى أغنياتهSpace Oditty، التي تخلى فيها عن «عالم أزرق» لم يستطع أن يفعل شيئاً حياله منذ البداية. هكذا ترك مسيرة فنية لا يمكن أن تقبض عليها شباك واحدة، محققاً الوعد الذي قطعه على جمهوره في حفلة عيد ميلاده الخمسين في نيويورك عام 1998، «أعدكم بأن لا أكون مملاً أبداً». ربما شكلياً فقط، لأنه عاد ليؤكد بعد سنوات عدة «أنني بقيت أكتب عن نفس المواضيع لنحو أربعين سنة، عن القنوط واليأس، والخوف، والعزلة، والهجر». اختباره لحالات غرائبية موسيقياً وشكلياً جعلته ذلك الرجل المتفرّد الذي لم تغوه يوماً الطرقات المستقرة أو الرتيبة، مدفوعاً دائماً بميل يقوده نحو اختبار وتجريب حالات فنية قصوى. في لندن عام 1947 ولد بووي باسم ديفيد روبرت جونز، وبدأ تعلم الساكسوفون في عمر الـ 13 عاماً حين كان متأثراً بموسيقى الجاز. الخلفية الثقافية استقاها من بعض تجارب «الروك آند رول» الأميركي، ومن البوذية التي استقر في أحد معابدها الاسكوتلندية في عمر مبكر قبل أن يلتحق ببعض الفرق المسرحية المغمورة حينها. بدأ بممارسة الموسيقى مع فرق مثلThe King Bees و The Manish Boys وغيرها. حينها غير اسمه خوفاً من تشابهه مع اسم دايفي جونز مغني ومؤسس فرقة Monkees. مع Space Oditty التي «انهمرت كلماتها بمفردها، بعد مشاهدة فيلم Space Odyssey لستانلي كيوبريك»، لمع اسم بووي في بداية السبعينيات. مع مارك بولان وتي. ريكس أسهم بنحو أساسي في إطلاق «الغليتر» أو «غلام» روك على المسارح، شاحناً موهبته بفنون الميم والكاباريه التي تمرّس بها أواخر الستينيات، والمسرح الياباني، وبعض الأكسسوارات والمكياج الفاقع. هكذا ثبت الفنون الاستعراضية والأدائية والبصرية كجزء أساسي من الغناء والعزف عبر تأثيرات رأيناها في قدرتة الهائلة على اختلاق شخصيات مختلفة وإعدامها بالحماسة نفسها مجدداً رغم انتشارها الإعلامي الواسع. فعل ذلك مع أكثر شخصياته نجاحاً كـ «مايجور توم»، تبعه «زيغي ستاردست» في ألبوم
The Rise and Fall of Ziggy Stardust and the Spiders from Mars، و«هالووين جاك» في ألبومه الثامنDiamond Dogs (1974)، و«علاء الدين ساين» Aladdin Sane (1972) الذي يحاكي فيه سكزوفرينيا أخيه، و «الدوق الأبيض النحيف» في Station to Station (1976). ألم تكن شخصياته الفانتازية، إلا مرادفاً بصرياً لتساؤلات صارخة حول الهويات والجندرية والتناقضات بتعدد أشكالها؟ أو لحالات نفسية قصوى كالهلوسة والبارانويا وفضاءات الذاكرة والوقت والبحث الدائم عن انتماء ما؟ بقي التجريب بزئبقيته الحجر الثابت الوحيد في تجربته، وأداته الوحيدة لإخماد نهمه وللتورط بكل ما يستطيع فعله، لدرجة أنه اعتبر لاحقاً أن اعترافه بأنه مثلي الجنس يوماً لم يكن سوى نوع من التجريب الجنسي. وضعه التجريب الموسيقي والبصري في الطليعة، وفي قلب الحياة الثقافية والاجتماعية الغربية المعاصرة. رغم ذلك، بقي محتفظاً بذلك الشريط الزمني الذي يجمع الحداثة والنوستالجيا معاً، فبقي الجمهور والنقاد مدينين له بتلك الدهشة الأولى التي ترافق كل عمل. موسيقياً حمل ألبومه الثاني «الرجل الذي باع العالم» (1970) تأثيرات روك ثقيلة وصوتاً أكثر صخباً وحنقاً تحديداً أغنية all the mad men التي أهداها إلى أخيه، مواصلاً نبشه في ترسبات المشاعر الإنسانية. وجاء ألبومه Station to station عام 1976 مثقلاً بالمخدرات والكوكايين ممزوجاً بالفانك والروك والبلوز. في برلين أنجز ثلاثيته الخالدة Low (1977) و Heroes (1977) وLodger (1979) التي طوّر فيها نوعاً من الروك التجريبي والموسيقى الإلكترونية. لينتقل بعدها إلى موسيقى الديسكو التي أحبها دائماً وتحديداً الـ Dance Rock فيLet's Dance (1983). أسئلته الوجودية التي طاردته دائماً، لم تبعده عن الجمهور الكبير، حيث سماه البعض فنان البوب محقق مبيعات نحو 140 مليون نسخة من ألبوماته اـ 25. في المقابل، تركت تجربة بووي تأثيراً في معظم أنماط الروك أهمها البانك روك، بينما جسد أيقونة لبعض الفرق والمغنين اللاحقين مثل slash ودايف غرول وفرقة «ميتاليكا» و«نيرفانا» التي قدّمت أغنيته «الرجل الذي باع العالم» بنحو مميز. واصل بووي مسيرته لنحو خمسة عقود، متأثراً دائماً بكل الفنون والآداب مثل ماتيس وألبير كامو وشارل بودلير وجورج أورويل وآندي وارهول، وصولاً إلى دامين هيرست، إلى جانب السينما التي شارك فيها ممثلاً في أفلام عديدة مثل Basquiat و The Last Temptation of Christ و Dream On في السبعينيات والثمانينات تحديداً. أخيراً، سقط بووي من دون أن يتمكن أحد من التقاط صورة أو وجه موحد له، ربما لم يكن سوى «نجم أسود»، كما أعلن في ألبومه/ النبوءة الأخير الذي غلبت عليه نغمات الجاز، أو لعله مجرد «رجل لم يكن موجوداً» منذ البداية.