للمرة الأولى في تاريخه، يستشعر موظفو «تلفزيون لبنان» المخضرمون الذين عاصروا هذه الشاشة، بالخطر، وبقرب انهيار هذه المؤسسة الإعلامية العريقة. الخلاف المستشري بين المدير العام المؤقت طلال المقدسي، ومدير الأخبار والبرامج السياسية صائب دياب، الذي اشتعل قبل أشهر تقريباً، على خلفية تنازع الصلاحيات، والتدخل في تسيير دفة هذه القناة، وصل الى أروقة القضاء، وتحول إلى فضيحة إعلامية، وأساء الى صورة التلفزيون الرسمي... هذه العوامل أثرت بشكل كبير في هذه المؤسسة، وإنتاجيتها التي وصلت فقط إلى 10% من قدراتها وكادراتها البشرية والتقنية.
هذا الخلاف الذي تحوّل إلى منصة للكيدية وتصفية الحسابات بين الرجلين، قسم الموظفين/ات في القناة إلى معسكرين بكل ما للكلمة من معنى. كل طرف يحشد إما مع المقدسي أو مع دياب، مع بقاء فئة قليلة على الحياد، تتلقى بدورها اللوم من الطرفين. انقسام حاد، وغياب أي بتّ في ملف تعيين مدير عام للتلفزيون، ومجلس إدارة أيضاً، يدقان ناقوس الخطر، في ظل تحييد وزير الإعلام ملحم رياشي نفسه عن الملف، وبقاء رئيس الجمهورية ميشال عون بعيداً أيضاً عن القناة، التي تعتبر عرفاً «من حصته». كل هذه المشهدية القاتمة، حوّلت التلفزيون الرسمي إلى ساحة صراع شخصي وفئوي، وأفرزت مشاكل إضافية بتحويل بعض الموظفين إلى «فشة خلق» لهذا الطرف أو ذاك، وإيقاف بعضهم عن العمل، لتنفيذ كيدية معنية.
منذ دخول المقدسي لقيادة دفة «تلفزيون لبنان» عام 2013، بشكل مؤقت مع ممثل مجلس الإدارة جوزيف سماحة، بدأت الخلافات، إذ يأخذ المنتقدون على المقدسي أنّه مارس دوراً سلطوياً، منفرداً، في القرارات وتسيير شؤون القناة، والتدخل في البرمجة، وجلبه وجوهاً محددة على الشاشة، بوصاية سياسية واضحة، آخرها الخروج ببرنامج «حجار بتحكي» (كل جمعة 20:30) الذي تولته الصحافية في «النهار» مي أبي عقل. برنامج يتحدث عن البيوت التراثية القديمة، جاء بتوصية أكيدة من رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان. رغم هذا السلوك الاستعلائي، استطاع المقدسي خلال سنوات توليه الإدارة، أن يجري نفضة واضحة المعالم على الشاشة، من تحسين للصورة والإضاءة، وتجهيز للاستديوات، وشراء سيارات النقل المباشر (SNG)، وإدخال تقنيات حديثة عليه. كما استخدم نفوذه المالي في كثير من الأحيان لاستثمار وحبك علاقات عامة، أفاد في بعضها، لجذب المعلنين إلى الشاشة، وجهّز بالتالي نفسه لدخول حلبة السياسة إن كان طموحه كذلك.

شهدت عصرها الذهبي
مع فؤاد نعيم، وكانت الأولى
في تغطية «مجزرة قانا» (1996)


رغم هذا المجهود اللافت، إلا أنّ المتابع لوضع التلفزيون يمكنه ملاحظة حالة تراجعه العام، عبر برمجته العشوائية، وأيضاً في مضامين وشكل نشرات الأخبار، التي باتت تشتغل اليوم تبعاً لسياسة منحازة. على سبيل المثال، تتثبت كاميرات التلفزيون في «السفارة السعودية»، لمواكبة ونقل مباشر لحفلة فنية، فيما تغيب عن نقل مظاهرة «رياض الصلح» التي حصلت في منتصف آذار (مارس) الماضي، احتجاجاً على سياسة الضرائب الحكومية.
وكل ذلك مردّه إلى حالة الشلل التي أصابت القناة، وأثرّت فيها، إذ غابت الخطط الإنتاجية، وكيفية النهوض من جديد بهذه الشاشة، فيما الكل ملتهٍ بخلافات المقدسي/ دياب.
الوضع الحالي الداخلي في القناة، ينقسم بين المقدسي، الذي وضع نفسه في حالة انكفاء تام فور تقدّم ملف التعيينات، حتى إنّه كان يفكر في وضع استقالته بتصرّف وزير الإعلام، وبين دياب الذي يتصرف اليوم، على أساس أنّ التعيينات قد أقرّت وطار المقدسي. حتى إنّ تدخل مدير عام وزارة الإعلام حسّان فلحة، بين الرجلين لم يؤت ثماره.
القناة الرسمية تنتظر اليوم دق لحظة التعيينات، أو حتى تحرك الحكومة والجهات المعنية لوضع حد لهذا الصراع، والترهّل، عبر تعيين ضابط إيقاع ولو مؤقت، يوقف هذا الاستنزاف، والتراجع في أداء القناة الرسمية. وإلى ذاك الوقت، تظل هذه الشاشة مغبونة، على خريطة الإعلام اللبناني، مع أنها تمتلك تقنيات قد تفوق باقي الشاشات. فهي الوحيدة اليوم التي تتمتع بالحق الحصري بتصوير وتغطية أنشطة رئاسة الجمهورية، من خلال انتداب مجموعة مصوّرين وصحافيين، إلى قصر بعبدا. ومن هذه الشاشة تنطلق الصورة إلى باقي المحطات. كما عاصرت القناة مرحلتين ذهبيتين، بتولي الوزير الأسبق ألبير منصور، وزارة الإعلام بعد «اتفاق الطائف» عام 1990، وأحدث نقلة نوعية في أروقة المؤسسة، إذ كان أول من أدخل نظام التقارير الإخبارية إلى النشرة، بعدما كانت الأخبار عبارة عن قراءة حرفية لما يرد من «الوكالة الوطنية للإعلام».
وكان وقتها الصحافي طانيوس دعيبس مديراً للأخبار. أما المرحلة الثانية، التي تبقى بصمة في القناة الرسمية حتى اليوم، فتتمثل في مجيء الفنان والإعلامي فؤاد نعيم، الآتي وقتذاك من وكالة «الصحافة الفرنسية». أدخل نعيم إلى الشاشة نبضاً حيوياً، وتحررياً، وديناميكياً أيضاً، ولا أحد ينسى تغطية مجزرة «قانا» (1996) التي هزت صورها الدموية والوحشية العالم. وكان «تلفزيون لبنان» الناقل الأول لهذه المجزرة. الحاجة ماسة اليوم إلى انبعاث هذه الشاشة، التي تتناتشها المصالح السياسية، والفئوية، وتؤثر في تاريخها العريق، في توحيد اللبنانيين، وأيضاً، في كسر هبوط الإعلام اللبناني، وإعادته إلى الطريق الصحيح من خلال سلسلة برامج تثقيفية وتوعوية ومسلية أيضاً، ترقى إلى المهنية وتحترم الأخلاقيات كذلك.




أرشيف عتيق

الثروات الاستثمارية لا تعدّ ولا تحصى في «تلفزيون لبنان» لكنها مهملة اليوم بسبب لامبالاة الرسميين بهذه القناة، وأيضاً بتأثير الأزمة الحالية عليها. ربما، قلة تعرف أنّ استديو الشاشة في منطقة الحازمية، يعدّ من أضخم الاستديوات في لبنان. هو ينتظر خطة لنفضته، وعرضه ربما للاستثمار، أو لاستكمال ما روّج له منذ سنوات، حول تحويله إلى استديو خاص بالإنتاج الدرامي، في إعادة للحقبة الذهبية في الإنتاج، التي سادت في عصر فؤاد نعيم. ومن هذه الثروات الاستثمارية والوطنية ذات القيمة العالية، هناك أيضاً أرشيف التلفزيون العريق. هذا الأرشيف يخضع حالياً لمرحلة النقل إلى الرقمي تحت إشراف هيئة صينية. وقد وصلت الأخيرة الآن إلى حقبة أواخر التسعينيات، ويبقى باقي الأرشيف العتيق الذي يعود إلى مرحلة ما بين الخمسينيات والسيتينيات، وأغلبه محفوظ على بكارات قديمة، يُعمل اليوم على معالجة موادها، التي تأثرت مع مرور الزمن، وتعرّض بعضها للتلف.