رحل أمس الأحد في دمشق، عمر الفرّا (1949 ــ 2015/ الصورة) إثر أزمة قلبية. وكان الشاعر السوري الراحل قد أكد حضوره الشعري منذ منتصف الثمانينيات، عبر مجموعة كبيرة من القصائد المكتوبة باللهجة البدوية، متكئاً على مخزونه الصحراوي الثري. هو المولود في مدينة تدمر وسط البادية السورية، ما أكد فرادة نبرته البدوية ضمن نسيج العامية السورية، خصوصاً إثر صدور ديوانه الأوّل «قصة حمدة»، القصيدة التي انتشرت بشكل كاسح في كافة أنحاء البلاد، في زمن أشرطة الكاسيت، قبل أن يقتحم الإذاعات المحليّة بطريقة إلقائه المميّزة، وقدرته اللافتة على شحن مستمعيه بمناخات درامية لم تكن شائعة قبلاً في الشعر الشعبي السوري. وسيعبر بأشعاره حدود البلاد إلى مختلف أنحاء العالم العربي، محمولاً على مواقفه الوطنية الملتهبة، إذ واكب بوجدانه المشبع بالحماسة أبرز المنعطفات التي واجهت المنطقة، وفي مقدمتها الانتفاضة الفلسطينية، حين أهدى الطفل محمد الدرّة إحدى قصائده، مروراً بالمقاومة اللبنانية، وانتهاءً بالأوضاع التي تعيشها سوريا اليوم.

هكذا، رسّخ اسمه عروبياً، قبل أن تتمزّق الخرائط ويتلاشى الحلم، وتتحطّم السفن. لكن تأثير عمر الفرّا الجوهري سيبقى في قدرته على صوغ وعي نسوي ــ على طريقته ــ وذلك في تحريض المرأة على استعادة حقوقها وحريتها في الاختيار والرفض والتمرّد على الأعراف السلبية، فـ«قصة حمدة» أقرب ما تكون إلى الملاحم البدوية الجوّالة، نظراً إلى تعبيريتها الآسرة، ودراميتها العالية. الدرامية التي سنجدها في معظم قصائده اللاحقة مثل «حديث الهيل»، و«الأرض إلنا». يقول في «قصة حمدة»: «ما أريدك… ما أريدك حتى لو تذبحني بيدك/ ما أريدك ابن عمي… ومثل أخويَ / ودم وريدي من وريدك/ أما خطبة/ لا يا عيني/ لاني نعجه تشتريها/ ولاني عبده من عبيدك/ ما أريدك».
هناك قدرة استثنائية على السبك وابتكار الصورة، والشجن البدوي المقيم في الضلوع، والمخزون التراثي العميق للشعر العربي في شقيه الفصيح والبدوي. كل هذه العناصر محمولة على طريقة خاصة في الإلقاء، أسهمت عملياً في إيصال ما يريده هذا الشاعر الذي صار ظاهرة شعرية، بصرف النظر عن أهمية تجربته في سياق العامية السورية التي وضعت هذا النمط الشعري خارج اهتماماتها طويلاً، إلى أن خلخل الفرّا هذه المعادلة، لافتاً إلى حضور الثقافة البدوية كجزء من النسيج الثقافي السوري المهمل: «أقْنُص معي... يا ذيب/ جُوعك مثل جوعي/ يا نفترس هالليل يا يطحنو ضلوعي/ حلو الصَّبُر يا ذيب.... حِيْن الدهر يرْحَمْ/ وعيب الصَّبُر يا ذيب لما العتم يلْتَمْ». الرحلة ما بين زمن الكاسيت والشاشة، منحت هذا الشاعر المتفرّد مكانته الخاصة في الوجدان الجمعي، رغم تفاوت مستوى قصائده، بسبب انخراطه بأسباب الشهرة، والتفاته إلى كتابة الشعر الفصيح الذي أتى أقلّ مرتبة من شعره الشعبي، كما فعل قبله مظفّر النواب ربما.
مات عمر الفرّا، وبقيت «حمدة» وحيدة...