لم تلعب رجاء بن عمار على أريكة. امرأة كقلم رصاص، يدور بمبراة. كلما دار، ترَّوس. كلما دار قصر عمره. واحدة من أفراد الجنس الهالك... المسرحيون. لم أرها في المرة الأولى، على خشبة المسرح. وجدت شجرة مشتهاة بالكثير من الرغبات. ذلك أن جسدها زادها. جسد لا تجففه شمس ولا أحداث. جسد لم تجففه شمس ولا أحداث. جسد لا يصدق نفسه وهو يدور كالقلم بالمبراة.
عينٌ ساطعة على المنصة، مهبط الأشعة. كل شيء هادر في جسد الممثلة/ الراقصة، من حرف الكاحل إلى حرف الأذن. جسد كهربي. لم تبح ابنة الحياة العصرية بالسعادة، لم تفش أسرارها إلا على الدروب المؤدية إلى المسرح، منذ بداياتها في «فرقة الكاف» في قفصة. سوف يتكرر ذكر المدينة بدروبها الضيقة وأزقتها ومنعرجاتها، كواحدة من مدن المسرح الدنيوي. دارة المسرح في قفصة، بناها المنصف السويسي. رحل الأخير قبل أشهر. لحقت رجاء بن عمار بـ «فرقة الكاف». ثم ، لحقت المنصف، إلى حيث لا ضغينة ولا كراهية ولا غرور ولا ألم. لا تزال السيدة، الجبارة، ملاكة ميول شريرة. هكذا، زخرفت نهارها الأخير بالموت.

ملكة السينوغرافيا المعجبة بتجربة «الليفنغ تياتر»
ذكرت القاطن بالموت، أن القباب تحفل بالتجليات المادية وجلاءات الأرواح المبهرة. تحت المباضع. هذه صورتها الأخيرة. معركة بلا سعادة. لا كمعاركها السابقة. معارك سعيدة، إلا حين خسرت « مدار» في السنوات الأخيرة، حيث لحِظتُ هناك الخط العربي يتشكل من جديد على جسدها، المحشود بالجرأة والتستر والانحناء والانكشاف الكلي. لا كرامة لمسرحي أمام عنقود عمره، متروكاً على الأرض الناشفة. «مدار» عنقود عمر رجاء بن عمار. صلبٌ وحاسم في التجربة المسرحية التونسية. وإذ دهمته الأزمة الاقتصادية، تكسرت مدارجه الخفية، أمام العينين المتوقدتين بالكرامة والعدالة والإبداع. ذاب المحترف أمام الفيلات الجديدة. واحدة من مظاهر الرأسمالية الوحشية. فجأة، وجدت بن عمار جسدها رقيقاً، هائماً، خلف جماليات المزار المفقود. هذه سرديتها الكبرى. هذه مرويتها. لا عجب أنها خبأت السردية هذه، بين أصابعها. وحين فقدتها، أقامت على احتمال الإصابة بجزام الأصابع. شرد الأفق أمام عينيها وماتت، وهي تراقب الأغراض والذكريات تنهب على فؤادها المدكوك بالتحولات المتعالية. سكنها الموت مرة جديدة، حين ماتت تحت مباضع الجراحين. غير أن أبطال الأزمنة الساطعة، إذ يرحلون، ينبثقون من الأخبار الطاعنة بالغياب. شيء من الجمالات الخارقة بتجربة امتدت على أكثر من نصف قرن. أشرطة تجمع الزخارف الذهبية بالأرضيات المعتمة الزرقاء. ذلك أن هذه المرأة الاستثنائية، زرعت حرشاً من الأجساد في جسد واحد. رأس من الدم، بغرف من الأخشاب الصافية. الرقص يرى من وراء الجدار. هذه رجاء بن عمار. الأداء حار، غير معهود. نيزك يشعل جمهوراً بالرغبة بالاستزادة من هذا الجسد المفولذ. لا قديسة ولا شهيدة. بنت مهنة على ما رددت باستمرار. مهنة تصخب كسحب الماء. رجاء بن عمار، تفيض عن ذاتها، بمهابط الأشعة الجديدة على جسدها غير المسطح. جسد بطبقات. زنبقة الماء، الصوت الآدمي، جذرية العلاقة بكل ما لا يستبدل بالاكفهرار والاكتئاب. هذه هي، مذ وجدت جسدها في صميم التخليقات الجديدة، في مضمون المنتج الثقافي مع فحول وفحلات المسرح التونسي. جليلة بكار ومحمد ادريس والفاضل الجعايبي والفاضل الجزيري وتوفيق الجبالي. عشرات وعشرات. لا أشير هنا إلا إلى المزاج النافذي لهؤلاء في تجربة المسرح الجديد. تداخلت الأصوات. استقلت بن عمار إثر تقديمات ضد التكرار، ضد الركود، ضد قفلات القصائد القديمة. كتبت شعراً لا يكتبه الشعراء في «مسرح فو». كتابات ضد التجويفات المفرغة في «بياع الهوى» و«ساكن في حي السيدة» و«هوى وطني»، و«وراء السكة»، و«نافذة على...» وغيرها من الأشغال المسرحية، لا المسرحيات. أشغال بين اليقين وانفتاح البوابات المؤدية إلى العرش الأعلى وبعض اللمعات الصوفية.
بين الشعر الجسدي والنقد الفيزيقي، أوصدت رجاء بن عمار أبواب الكلام على الفصول الإيروتيكية في الرقص العربي، حين فتحت المجالات اللغوية الموصدة على كل المناهج التعبيرية الجديدة في العالم. المسرح علة وجودها الأول. هكذا أدانت كل الطرق القديمة في الأداء عبر مراجعة العلاقة بالجسد، بزر الهلاس المتفجر بالإيحاءات. الجسد، عندها، أساس الفلسفة الجمالية والخطاب المسرحي الجديد. هزت شجر التنويط القديمة، حين عجنت الجسد بطين اللغة الجديدة. جسدها كوزموسها. قوة العبور من الحصارات بأشكالها المتنوعة. المسرح روح لا بناءات. المسرح روح لا صرعة. لا توالد أزياء ولا لحاق بإشعاعات المتبوع المصَّبر بالأختام السالفة. صعَّدت نبرة الكلام دائماً، لكي تؤكد أمامي أن الانشقاق عن المسرح الطلياني لا يكفي، إذا لم تنفخ في رئة المسرح الأنفاس الحديثة. اطمأنت رجاء بن عمار إلى ما سمته «المسرح الزياح». إذ تخففت من أرض موت الحداثة المرفوعة على الجبانات الشكلية والنيوطليعية المراوغة. لم تهدأ، وهي تتعرض للكثير من محاولات الاغتيال، من مصادرة «مدار»، حقلها الممغنط على جسدها الثائر، إلى حصار الحفر الأخيرة، لكل مفرد. للكل بالمفرد. كتبت نصاً عن العراق، بجنوح الأوضاع الضاري هناك. لم ينفذ رغم الاتفاق مع الفاضل الجعايبي على تنفيذه. لعبت في المسرح والسينما (عصفور السطح...). ملكة السينوغرافيا، المعجبة غير المهومة بتجربة «الليفنغ تياتر» مع جوليان بك وجوديت مالينا. جنحت عما بها منذ يوم ، منذ يومين وأكثر. انتقمت من كل التحشيدات السابقة، بقيم صدمها المعروفة. تفلتت من درف التبويب بالموت. نصر بعد نصر. الموت نصر في الأوضاع الحالية.