لن نعرف إذا كان قلب رجاء قد توقّف تعباً، أو انفجر غضباً. لكنّ هذه الروح المتمرّدة التي تشكّل علامة فارقة في مسار المسرح الطليعي التونسي ـــ وهو يحتل مكانه بثقة في صدارة المسرح العربي منذ عقود ـــ صرفت حياتها تقاتل على الخشبة أو من أجلها، تقاتل في الشارع، ومن أجله.
أي أن حياتها قصّة مساكنة طويلة مع الغضب. فهل يجوز أن يغدر بها خليلها في نهاية المطاف؟ من رآها على المسرح، وحدها مع أشباحها وتهويماتها وتداعياتها، تصرخ أو تهمس، تضحك أو تبكي، تتهم وتحتجّ، تعشق وتشتهي، يعرف تماماً أنّها امتهنت الغضب بجرعات كبيرة. كانت تلتقطه في المزاج العام، تغرفه من وجدان الجماعة، تستوحيه من مخيّلة أدبيّة ومشهديّة مركّبة. مع نهاية التسعينيات جمعت شبان الهامش الفقير، ورواد العنف والحياة القاسية وصنعت معهم (بهم) مسرحاً. كان عنوان العمل «وراء السكّة» (2001)، وقدمته في محطة قطار مهجورة مع مجموعة من الهامشيين والعاطلين والخارجين على القانون. غضبهم هو الذي جذبها، ثقافة الشارع وفنون الشارع ولغة الشارع ويأس الشارع. كنا لا نزال بعيدين سنوات ضوئية عن 14 جانفي. لعلّها الخيبة قتلتها إذاً، أو الأفق المسدود. المأزق الفردي والجماعي لحظة تقاطعهما. لكن رجاء تمتلك دائماً الكلمة الأخيرة. في العام 2014 «طُردت» هي وشريك الحلو والمر المسرحي المنصف الصايم، من «مدار»، الفضاء الذي حملته قرابة عقدين، رغم المصاعب، وصار موئلاً لفنون الفرجة والرقص والموسيقى، في قرطاج، ضاحية العاصمة التونسيّة. خسرت المعركة لكنّها بقيت تصرخ. تلك لم تكن جولتها الأخيرة.
رجاء بن عمّار كانت دائماً بالأسود. أليست حفيدة أنتيغونا؟ مثلها لا تستسلم بسهولة. وهي لم تختر يوماً الحلول التسوويّة. بنَت مشاريعها في الأرض الوعر، وأبحرت عكس التيّار. قاتلت ضد الجاذبيّة، ضد سلطة الواقع. ضد جسدها نفسه، حين قرّرت ذات يوم أن تخضعه، وأن تضع الرقص في صدارة عمارتها المشهديّة. راحت ترقص بالكلمات والحكايات والطقوس أيضاً، راقَصَت الموت والأوجاع والأحلام الكثيرة، كما في تجربة «مدينة الأحلام» (2007). شاهدت أحلامها تتحطّم وهي تبتسم من بعيد. تلك هي الفنّانة المميزة التي أعطت المسرح التونسي روحه، وساهمت في صنع فرادته، عاشت عمرها في المعترك. وجدت نفسها وحيدة ضدّ الجميع. إنّها فنانة القطيعة أيضاً، بقيت في الموقع النقيض للخطاب السلطوي، أرادت أن تخترع أشكالاً ولغات، وأن تعطي للمسرح هويّته الخاصة، القائمة على النصّ - الجسد. رجاء محاربة، وبطلة المعارك الخاسرة التي كانت تزيد حياتها ومسرحها رونقاً وسحراً وبهاء. شيئاً فشيئاً تحوّلت نصوصها المسرحيّة إلى حكايات ومونولوغات شعريّة تذكّر بباتي سميث، مع فارق صغير أنّ رجاء تجاوزت الروك إلى الراب أيضاً. عملت على دمج النص والجسد والاداء الحركي في احتفال طقوسي صادم. اسمعوها، على يوتيوب، في أحد تلك المونولوغات السرديّة، وهي مستندة إلى عكازين، تنظر إلى الأعلى وتتحدّى الأفق، في الذكرى الأولى لاغتيال الرفيق شكري بلعيد («من قتل شكري؟» مع المنصف الصايم، «التياترو» 2014).
تختصر رجاء مسار المسرح التونسي. من تجربة «الكاف» التأسيسيّة الفريدة، إلى الفرقة الاسطوريّة التي هي «المسرح الجديد» مع الفاضلين الجزيري والجعايبي وجليلة بكار ومحمد ادريس والحبيب المسروقي… من تلك المرحلة بقيت صورة مدهشة لها مع الجزيري، في مشهد من مسرحيّة «التحقيق» (على الأرجح، فنحن لم نعرف تلك الاعمال الا من خلال الشهادات الحيّة والصور والنصوص). في العام 1980 أسست «مسرح فو» الذي فتح صفحة جديدة في المسرح التونسي. توفيق الجبالي ترك الفرقة سريعاً، ليؤسس تجربته، وبقيت مع رفيق دربها المنصف الصايم. معاً قدما أعمالاً نادرة من ثلاثيّة «الأمل» (1986)، «ساكن في حي السيدة» (1989)، «بيّاع الهوى» (1995)… إلى «فاوست» (1997) و«هوى وطني» (2007) التي تمثّل ذروة ابداعيّة. وروت الثورة التونسيّة في «فايسبوك» مع المنصف وأختها رندا الدباغ. زيارتها الوحيدة إلى بيروت، جاءت متأخّرة، رغم الروابط القويّة مع هذه المدينة والكثير من مثقفيها ومبدعيها. كان ذلك العام 2009، حين دعاها«مهرجان الربيع» لتقديم تجهيزها المسرحي «الفقاعة» في «الدوم». وأدهش العمل جمهوراً شاباً لم يكن يعرف من رجاء بن عمّار إلا الاسم والأسطورة.
مثل معظم بطلاتها، وتحديداً «الراقصة» في مسرحيّة «الأمل»، عاشت رجاء بن عمّار في واقع متخيّل، مع الافكار الكبيرة والاحلام المحبطة. كانت مسكونة بالحنين إلى عصور وحيوات لم تعشها الا من خلال الفضائيّات الأجنبيّة، أو من خلال مشاهداتها وقراءاتها ورغباتها المؤجّلة. وفي «الأمل» تحديداً، اكتشفنا رجاء ذات خريف، ضمن «أيام قرطاج المسرحيّة». وراء أبواب المقهى الموصد ليلاً يعيش الرجل والمرأة أحلامهما المقموعة، هو (المنصف) يريد أن يصبح ملاكماً وهي راقصة. ما زلنا نذكر الديكور الباروك والمرآة المنحنية في العمق. يومها لعبت رجاء بنزق كـ «الذئبة الجريح»، فقطعت أنفاس الجمهور، ثم سقطت على المسرح وكسرت قدمها. وفي اليوم التالي استقبلتنا بالعكاز، فتحدثنا عن المسرح والحياة، قلنا لها إنّ اداءها ومظهرها يذكران بـ آنا مانياني في فيلم شهير لروسليني هو «روما مدينة مفتوحة». يا للهول، قالت. وكانت بداية صداقة نادرة مع هذه المرأة الاستثنائيّة التي أحببتُ وأحب تونس بجوارحها هي. في علاقتي بتونس، بلدي الثاني، دائماً هناك شيء من رجاء. لقد «مضت للقاء النجوم» كما كتبت فجراً صديقتنا المشتركة نوال اسكندراني...