ليس خفياً أن يخلق النظام الرأسمالي منافسة أينما استطاع. بشكل مباشر بين العمّال، يتمّ تشجيع المنافسة، كي يكون الصراع بين العمال بدلاً من أن يكون مع صاحب العمل... «ربّ» العمل. وفي المجتمع، بين شرائح مختلفة، من بينها النساء، كي لا يكون الصراع الأساس، مع «رب المنزل»، البطريرك.
وهذا ما نقع فيه، أو يدفعنا النظام للوقوع فيه: لتفكيك المجموعة وتفتيتها، تؤخذ كل امرأة على حدة، لاستبعادها عن القطيع، فتضعف المجموعة بخسارتها، ويتمّ ذبحها وحدها. ونستعمل هنا مصطلح «قطيع»، في محاولة لتغيير استعماله سياسياً. القطيع، بعكس الخطأ الشائع في وصفه كمجموعة من الأفراد التابعين غير المستقلين بقراراتهم وتصرفاتهم، يتبعون قائداً بشكل أعمى. القطيع مجموعة مماثلة من الحيوانات، تتصرّف كشخص واحد، ككيان واحد. والأدوار في القطيع موزّعة على الجميع، تتصرّف بتنسيق، وتعمل لمصلحة المجموعة كلها.
لكن النظام المهيمن يعلّمنا أن القطيع مرادف للاستغلال، وأن ديناميكيته ديكتاتورية تمنع تطور الفرد وتغالب مصلحته/ ا. وهو شكل آخر من إعادة طرح الفردية والمنافسة. لكنه ينسى أن يقول لنا بأن وجود الفرد بمفرده يجعله/ ا ضعيفاً/ة، وأكثر عرضة للهجوم وفاقداً/ة لأي دعم نفسي أو سياسي. وأغلبنا، كنساء قبل أن نكون نسويات، نعرف جيداً هذا الشعور، الشعور بالضعف السياسي، و«استفراد» المجتمع بنا.
ما يجري الآن يشبه هذا النموذج من تفكيك المجموعة/ القطيع، واستضعاف الأفراد فيها وتأليب بعضهم على بعض، وهو أمر لا يشبه ما نحن بحاجة إليه أبداً.

ما نحتاجه الآن هو تصويب بوصلة العمل نحو تظهير «الصراع»

بينما نحارب الذكورية، نرفضها بكافة أشكالها ونرفض أدواتها ومنطقها. ولنفعل ذلك، علينا أن نفهم بأن الجمعيات الأهلية، بمنطقها وطرقها ومفاهيمها، بل بوجودها كمؤسسة ترتبط أولاً بقضية ليس لاهتمام بأحقيتها، بل لتوافر فرص تمويل فيها، وثانياً لتزيل عنها وصف «السياسي» وتجعلها قضية «إنسانية»، خارجة من سياقها التاريخي الاقتصادي الاجتماعي.
ما نحتاجه الآن هو تصويب بوصلة العمل نحو تظهير «الصراع»: نعم نحن في صراع مع الذكورية، ونحن بحاجة لانتاج خطاب جامع، ونحن بحاجة للتواصل مع النساء اللواتي لا يشبهن «ناشطات» الحركة النسوية أو الحراك السياسي العام في لبنان، ونحن بحاجة بكل صراحة، لإقصاء تام لأي شكل من أشكال الجمعيات الأهلية من الحركة النسوية.
لقد شكّلت الجمعيات الأهلية أزمة حقيقية في الحراك السياسي عامّة وفي الحركة النسوية خاصة، ولا نبالغ إذا قلنا بأنها من أكثر ما يؤثّر سلباً في الحركة والفكر النسويين، وتشويه النسوية لتصبح وظيفة مدفوعة في جمعية بدلاً من أن تكون موقفاً سياسياً وممارسة يومية. وبما أنه يصعب أن نفرض على النساء عدم العمل مع الجمعيات، خاصة في ظل غياب البديل الوظيفي حالياً، فإنه من السهل جداً على النساء اللواتي يعملن في الجمعيات أن يرفضن سياستها موقفاً وممارسة.
كنت أقول لصديقتي بأن إحدى لحظات السعادة عندي هي عندما تقرأ جدّتي حسنى، الجنوبية الثمانينية المدوّرة ككوز رمّان أحمر، بوجهها الأبيض المنمّش، مقالاً كتبته، فيعجبها. إذا خلقنا نسوية، لا تفهمها جداتنا، بل إذا خلقنا نسوية لم تنم في رحم جداتنا بعدما تناقلتها أرحام من جئن قبلهن، ونمت من معاناتهن وحيواتهن وقدرتهن على المقاومة، فرحمنا الآن أضعف من أن يعطي لهذه النسوية شكلاً حقيقياً. هذه النسوية التي نريدها، كوصفة سرية تناقلتها جداتنا، من فلسطين ولبنان وسوريا والعراق ومصر وأرمينيا وكوردستان وكل شعوب هذه المنطقة، عجننها جيداً وخبأنها بين ثيابهن أو تحت السرير، وكن بها ينتصرن دائماً على الحياة.
وعلينا أن نعود لنسمع القصّة ونوثّقها، لنكتب الطريقة والمكوّنات، ولنعود مرّة أخرى، قاصاّت هذه الأرض، ننتمي إليها ونتقاسم معها الرحم.