اليوم، يستمع الجمهور في بيروت إلى ألبوم «شرقي» يقدّمه ملحّنه غسّان سحّاب على آلة القانون مع تخت شرقيّ مؤلّف من: عماد حشيشو (العود)، خليل البابا (الكمان)، طوني حوّاط (الكمان الكبير/ التشيلو) وعلي الحوت (الإيقاع)... واليوم أيضاً، يرى الجمهور ألبوم «شرقي» صمّمته رنا ظاهر المختصّة في التصميم والآثار، بإدارة مبادرة مِعْزَف للموسيقى الأصيلة في المشرق.
«شرقي» هو ارتحالٌ إراديّ من سمعٍ وبصرٍ يأخذ المستمع الناظر إلى حقباتٍ ومحطّاتٍ وطبقاتٍ وأماكن عدّة. قد يكون، سمعيّاً، تردّداتٍ علقت في أثير هذا المشرق بين ثقافات بلاد الشام وبلاد المصريين والحجاز والفرس والعثمانيّين. وبصريّاً، هو تقفّي آثارٍ ملوّنة في طبقاتٍ سمراء تلوّنت في هذه البقعة من الأرض.
بدأ المشروع في بيروت، بمجموعة نغماتٍ ودندناتٍ منفردة على القانون عام 2012 حين كانت المدينة ممرّاً غير آمنٍ بين حقولٍ مشتعلة تحيط بها. كان السؤال يومها: ما موقف بيروت ومن فيها من الحاصل حولهم؟ هل تستطيع النأي بنفسها ثقافيّاً وفنيّاً عن محيطها؟ أتت أولى إجابات غسّان سحّاب بمقطوعة «بُعد» التي قصد بها بُعداً جديداً يريد به التوقّف لتوسيع آفاق تلك المرحلة القلقة. والهاجس الأساسي لديه كان، ولا يزال، لماذا لا يُنتج الفنّ استمراراً لما سبقه؟ كيف يزاح الغبار عن جسورٍ تربط الكائن بقصته وجذوره؟ وكيف لا يكون الفنّ توهّماً أو هروباً من الواقع؟
ثم نضجت الفكرة أكثر حين برزت نغمات المقطوعة الثانية «قرجغار» ولم تتأخّر لتتبعها «شرقي»، المقطوعة التي أعلنت ولادة مشروعٍ موسيقي جديدٍ لغسّان سحاب أعطت اسمها كعنوانٍ للعمل. وفي عام 2014، خرجت نغمات القانون لتأخذ مدى جديداً. حينها، بدأت آلات التخت الشرقي بمرافقة القانون، فأضيفت جمل ارتجالاتٍ وحواراتٍ بينها، وتوزّعت توليفة النغم لتصير وصلاتٍ غير تقليديّة. صار «شرقي» عملاً من ثلاث وصلاتٍ في مقام الحجاز والراست والبياتي يضمّ ثماني مقطوعاتٍ آليّة. استمرّ تفاعل الآلات وتكامل أصواتها حتى ساعاتٍ قليلة قبل تسجيل العمل بطريقة العرض الحي في صيف العام الماضي. عمدت الفرقة خلال التسجيل إلى أداء الموسيقى جماعةً في الاستديو مع مهندس الصوت فادي طبّال. وخلال إنتاج الألبوم، تمّ الحفاظ على أقرب صوتٍ من الأصلي لإظهار مزايا الموسيقى المشرقيّة وشخصيتها القائمة على الارتجال والتفاعل بين أعضاء التخت الشرقي والتلاوين الموسيقية المرتجلة ابنة لحظتها.
وبالترافق مع فترة التسجيل، بدأ البحث البصري لتظهير صورة «شرقي». أتى عمل المصمّمة رنا ظاهر بحثاً في أشكال الخط الكوفي، يطوّقه تطريز من تراث هذه المنطقة، مستوحى من أكمام وملابس طفلةٍ وأمّها كُشفت في آثار وادي قنوبين. وفي داخل الألبوم، رحلة جمالية لونية في مدن المشرق وأسواره وقلاعه ومعالمه وطبيعته. يعزل التصميم الناظر إليه عن فوضى الألوان والأشكال المحيطة به، لكنّه يضعه في قالبٍ رحبٍ من الرموز والتفاصيل التي إذا غاص بها، وجد انسجامها واتّفاقها مع بيئة المشرق. فإذا نظر داخل بيوته التي يسكنها وتسكنه، في داخله، ظهرت آثاره، وأشارت إليه، فأخبرته قصّته ووجد نفسه.
«شرقي» هو نتاج عملٍ بدأ منذ خمس سنوات، واستمرّ بالتبلور، محافظاً على نغماته الأساسية، ومضيفاً إليها تنويعاتٍ لحنية من المؤلّف والعازفين المشاركين فيه. وهو عمل يندرج في سياقٍ عامٍ حيث يستمرّ تخبّط المنطقة بين ضياع وتيهٍ وملامسةٍ للحقيقة في لحظاتٍ من الوجد.
من حقبات تاريخ المشرق وبين طبقاته، تتوضّح الصورة الجمالية الأصيلة لهذه المنطقة. يبني غسان سحّاب في ألبومه الأوّل طرقاً جديدة بأسلوب معاصر، ولا يهدم الجسور التي توصل الحاضر بأصوله. لا يهجر المنبع والأصل، ولا يكتفي به، بل يعمل على تجديده... أو على اقتراح تجديدٍ يحترم روحه الأصيلة، يتصالح معها، ولا يعاديها. هكذا، يصبح «شرقي»، كما يشير المنشور في داخله، تظهيراً لشرق المؤلّف، لتاريخ هذا المشرق وجغرافيّته والثقافات التي مرّت عليه، أثّرت به وأثّر بها.

«شرقي» لغسان سحاب: 20:30 مساء اليوم ــــ «مسرح دوار الشمس» (الطيونة ــ بيروت) ـ للاستعلام: 01/350274 ــــ 01/381290