بالفعل، فاجأ فنان الغرافيتي بانكسي الجميع عند إعلانه أخيراً عن فندقه The Walled Off في بيت لحم. للوهلة الأولى، تبدو فكرة مثيرة للاهتمام، أي الاحتجاج الفني على جدار الفصل العنصري، كما فعل دوماً (بالرسم عليه) لكن هذه المرة بفندق اشتغله الفنان البريطاني بمساعدة مدير أعماله الفلسطيني وسام سلسع الذي سيعينه مديراً للفندق ذا الغرف التسع، من بينها « جناح ملكي».
فكرة جميلة أيضاً الاشارة إلى فترة الكولونيالية البريطانية والإشارة إلى «وعد بلفور» في ديكور الفندق، وجلب السياح إلى هذه المنطقة المنكوبة من العالم. وبما أنّ الفندق يحوي متحفاً وغاليري، فقد تكون فكرة مثيرة أيضاً للفنانين الفلسطينيين، فمن منهم لا يرغب بعرض أعماله إلى جانب أحد أهم الفنانين المعاصرين في العالم؟ وأيضاً هي فكرة جميلة لقطاع السياحة واقتصاد المدينة، إذ يمكن لبانكسي أن يجلب سياحاً لبيت لحم أكثر من المسيح الذي له كنيسة هناك!
بدأ الإعلان عن الفندق عندما غيّر بانكسي صورة حسابه على انستغرام بصورة لأحد الأعمال المرسومة في الفندق، ليرسل بعدها كرشنان غورماثي المذيع الشهير في «القناة 4» البريطانية لإجراء السبق الصحافي للحدث الفني الأبرز.
في تقرير غورماثي اياه، يُجيب مدير الفندق سلسع على أسئلة الصحافي ويتحدق عن بانكسي الظاهرة في الـ «ويست بانك» إلى درجة ستجعلنا نتخيله يقول «ويست بانكسي». ويضيف أن المشروع هو «بزنس» لتنشيط السياحة ليس في فلسطين فقط بل في «اسرائيل» أيضاً! ويضيف ـ كأنه ليس فلسطينياًـ بأنهم عملوا «مع كل الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية» لتجهيز المشروع.
لكن مهلاً، هل هذه مزحة؟ لا، ليست مزحة. حسب الموقع المشرف عليه بانكسي بنفسه، فإن «الفندق المعزول بالأسوار» هو فندق حقيقي بغرف وخدمات توفر الراحة والاستجمام وترحب «بالجميع من كل الأطراف» وخاصة «بالضيوف الإسرائيليين الشباب». وسنكتشف أنّ الفندق أيضاً يحوي متحفاً تَشاركَ في إنجازه «فنانون فلسطينيون وإسرائيليون» وفق ما صرح به قيَّم المتحف الذي جاء من بريطانيا خصيصاً لتجهيزه.
ولكن هل هذا غريب؟ ليس تماماً، فكلنا يذكر حادثة معرض «ديزني لاند» الذي نظمه بانكسي قبل عامين حين تم توريط الفنان شادي الزقزوق فيه ليكتشف بعد وصوله أنّ المعرض المدعو إليه، يضم أعمالاً لفنانين إسرائيليين... ليس فقط فنانين بل جنود. أمر دعاه إلى الاحتجاج على المشاركة بطريقته حين قرر تغطية اللوحة المشارك فيها. وللمصادفة هذه الحادثة مرتبطة أيضاً بالمدعو سلسع مدير أعمال بانكسي، والذي كان قد حاول تضليل فنانين آخرين من بينهم هاني زعرب الذي رفض المشاركة وقتها.
أي متتبع لمسيرة بانكسي لا يستطيع أن ينكر بأنه حقق جزءاً كبيراً من شهرته من خلال أعماله التي رسمها في فلسطين. أعمال مؤثرة وشجاعة نعم. لكن هل بإمكاننا أن نقبض على موقف سياسي واضح وصريح لبانكسي الذي يشير إلى الموضوع الفلسطيني بالخطاب الإمبريالي المتمثل بكلمة «نزاع» Conflict ؟ كأن فلسطين جزيرة متنازع عليها. وهو نفسه يصف الجدار بأنه «عائق للحركة بين شعب دولة إسرائيل وبين الفلسطينيين»؟ كأن المحتل يعاني من الحركة تماماً كالفلسطيني. هكذا تميَّع الفنون، وتتحول فكرة رسم مناهض للجدار إلى عمل لتجريد الجدار من معناه السياسي ليصبح «عملاً فنياً» و«بزنس» لا أكثر! وكلنا يذكر الحرب الأخيرة على غزة والقطة الشهيرة التي لفتت انتباه وسائل الإعلام أكثر من آلاف الشهداء والبيوت المهدمة.
المتخفي مجهول الهوية الذي بدأ بـ«الستريت آرت» والـ«أنتي كابيتاليزم» تحول منذ فترة إلى الـ«بزنس آرت» وصارت أعماله تباع بمبالغ طائلة. أما كلفة الإقامة في فندقه الجديد، فغير متاحة إلا لمن يملك أكثر من ألف دولار! وبالمناسبة هو ليس «آرت» للأغنياء فقط بل أيضاً للذين بإمكانهم الوصول إلى هذه النقطة من الأرض المحتلة، كالسياح والإسرائيليين. وبهذه المناسبة، فإن شركات السياحة الإسرائيلية قد تكون سعيدة بمشروع مماثل، ونراهن بأنها ستبدأ من الآن إدخال هذا الفندق الأثير في برنامجها السياحي، ولا بد أن هذا الفندق سيكون أيضاً قبلة جديدة لـ«البوبو» و«الهبستر» الـ«كوول». بعد أن يلتقطوا صوراً وسيلفي مع الجدار، سيكملون رحلتهم إلى إفريقيا لمساعدة أطفال المجاعات.
بمعزل عن سلسع الذي لا يخفي تعامله مع المشروع كـ«بزنس»، نرجح أن بانكسي نفسه ليس بحاجة إلى المال، فثمن بضع لوحات يرسمها قد تضمن له العيش برفاهية طيلة حياته. إلا أن الفندق بالنسبة له هو مجرد عمل فني. عمل يحق لنا أن ننتقده ونضع أمامه عشرات الملاحظات بداية من اليافطة المرحبة بالضيوف باللغة العربية والانكليزية والعبرية على مدخل الفندق، مروراً بالتعاون مع فنانين إسرائيليين، وانتهاء بخطابه الذي يشبه إلى حد بعيد لغة دبلوماسي بريطاني يتحدث بسذاجة عن فكرة التعايش والسلام.

■ https://twitter.com/Reuters/status/838085136822358016