دمشق | في تجربته الإخراجية الأولى «ستاتيكو» (عن نص لشادي دويعر)، أعاد جمال شقير بعض الألق إلى الخشبة المسرحية السورية. هناك ما يشدّنا إلى العرض الذي تشهده هذه الأيام خشبة «مسرح القباني» في دمشق.
لوحة الـ «غرنيكا» المعلّقة على الجدار ستحيلنا على حرب أهليّة ما، حرب على بعد أمتار ربما، لكن الرجل الأربعيني (كفاح الخوص) الذي كان يتهيأ للخروج ببزّة جديدة أربك توقعاتنا قليلاً. بدا كأنه ينتظر أحداً ما في تلك الليلة المضيئة، ربما كان على موعدٍ غرامي، أو إجراء صفقة ما. إلا أنه ما أن يجلس إلى طاولته حتى تتلاشى هذه التوقعات. فهذا شخص قد وصل إلى قرارٍ حاسم بالانتحار، وفقاً للتسجيل الذي كان يرويه على شريط كاسيت.
سنفهم أنه انتهى إلى عدمية مطلقة، ويأس كامل من حياة غير جديرة بالعيش. مستقبله لن يكون أفضل من ماضيه، في عزلة تزداد ضراوة بعد انفصاله عن زوجته، وانطفاء أحلامه في عالم كابوسي يكاد يخنقه. الموسيقى الصاخبة التي تقتحم عزلته على هيئة مارشات عسكرية (درامز سيمون مريش)، أربكت صفاء لحظة تسجيل وصيته، ولن ينفعه الاحتجاج المتواصل في إسكات تلك الموسيقى. وسيزداد وضعه سوءاً بمجيء جاره (محمد حمادة) بسكينه الضخمة لاستعارة بصلة. السكين أضخم مما يحتاج إليه تقشير البصل، كما أنّ هيئته وتصرّفه وأفعاله الوقحة، تنطوي على نموذج يعيش اللحظة الراهنة بكل وحشيتها ولا آدميتها. هذا كائن بهيمي ونفعي وتسلّطي، من أولئك الذين وجدوا في فوضى الحرب سلّماً للصعود واستثمار كل ما يقع بين أيديهم، فكل شيء يصلح للنهب والبيع.

لوحة الـ «غرنيكا» المعلّقة على الجدار ستحيلنا إعلى حرب أهليّة ما

في الحركة الثانية من «ستاتيكو» الرجل الذي ينوي الانتحار، تقتحم لحظته الأخيرة صديقة الجار (نوّار يوسف) بقصد الاختباء في بيته، بعد قدوم أهله المباغت إلى بيت عشيقها. كانت «أمل» مضطربة بفردة حذاء واحدة، مثل سندريلا مطعونة بكرامتها. ما أن تكتشف أن نيّة الرجل الانتحار وليس القتل، نظراً إلى وجود مسدس في درج الطاولة، تحاول استدراجه إلى إنجاز المهمة على عجل، لأن منظر رجل غارق بدمه، وفقاً لرؤية عرّافة سيفتح أبواب الحياة أمامها... هي العالقة بين رجل لا تحبه، وتطلعاتها نحو أفق آخر لا يشبه الدرك الذي وصلت إليه.
كأس شاي تتبادله مع هذا الرجل الغرائبي يفتح شهيته إلى الحياة رغم ادعائه الانتحار حتماً. كأن حاجتهما إلى الحب هي العزاء للخلاص من «ستاتيكو» العنف المتواصل بمراياه المختلفة. وهذا ما جعلها تخوض عراكاً شرساً مع عشيقها الذي عاد مرّة أخرى لقضاء السهرة بصحبة الجار غير عابئ بما كان يخطّط له. سيتكشّف المشهد عن فوضى عارمة في المكان، وستتناثر الكتب والأوراق والثياب، قبل أن تنتهي إلى الشارع بحركة رقص مجنونة تقوم بها أمل، في أكثر المشاهد براعة وألقاً خلال العرض. لعلها محاولة للخلاص من ايديولوجيا عبثية أوصلت صاحبها إلى محاولته الانتحار. الجار الذي عبث بالمسدس عبر ألعاب صبيانية أدت إلى إطلاق رصاصة طائشة أودت بالرجل المنتحر، وفزع المرأة التي فتحت الباب وخرجت بعد صمت طويل، طاويةً صفحة سوداء من حياتها نحو شارع انطفأت أضواؤه فجأة، والجار الذي مسح بصماته عن المسدس وتسلل من المكان، فالعتمة تنتظر الجميع في الخارج. هناك جريمة لن يكتشفها أحد بوجود شريط الكاسيت واعترافات القتيل. ربما كانت هذه الإشارة خلاصة فكرة العرض. عمل جمال شقير على النص إعداداً وإخراجاً بما يشبه نقلات رقعة الشطرنج، من دون أن ينبش بعمق أسباب كبوة حصانه، والزلزال الذي أطاح القلعة. اكتفى بإشارات خاطفة إلى ما قادنا إلى هذا الحطام. كنّا نحتاج حفراً إضافياً بخلخلة السرد الأفقي نحو ضربات شاقولية تمنح العرض ثقلاً درامياً يستحقه، رغم الحضور اللافت لممثليه. نوار يوسف مجنونة الخشبة السورية بلا منازع بأدائها المبهر، وكفاح الخوص التقط بذكاء نبض الشخصية. أما محمد حمادة فقد انخرط بجرعة زائدة من الاضحاك، مما أربك مساحة شجن الآخر وأوجاعه. عرض حار في شتاء قارس أنعش الخشبة السورية بعد انطفاء الموقد طويلاً.

* «ستاتيكو»: 18:00 مساء حتى 2 آذار (مارس) ـــ «مسرح القباني» (دمشق) ـــ للاستعلام: 009632318019