ما هي مجموع الأصوات التي قد تروي قصة حياة؟ في «اسمعي»، يعيش مهندس الصوت «جود» (هادي بو عياش) في عالم فريد، مأخوذاً بشغفه بالأصوات. يرى ويعيش الحياة من خلالها، ومعه يخوض فيليب عرقتنجي (1964) تحدياً قد يكون هو الأصعب بالنسبة إلى مخرج: كيفية تصوير عالم الصوت غير المرئي الذي يشكل حياة البطل.
هو تحدٍّ يفرضه المخرج على نفسه طواعية، مأخوذاً بشغفه باستكشاف مساحات سينمائية جديدة، فيخرج بعمل يستحق التحية باستثنائيته وجماليته.
حبيبة البطل «رنا» (ربى زعرور) تدخل في غيبوبة جراء حادث سير تعرّضت له. يحاول جود أن يوقظها من سباتها، فينقل إلى غرفتها الصغيرة والساكنة حيث تستلقي بلا حراك، إيقاع الحياة التي تحدث في الخارج، من خلال مجموع الأصوات التي يسجلها ويمررها سراً لأختها مروى (يارا بو نصّار) لتسمعها إياها بعد أن يمنعه أهلها من رؤيتها. بعد دخولها في غيبوبة، يجد أهل رنا في ذلك وسيلة لاستعادة سيطرتهم على حياتها... تلك السلطة التي لطالما تمردت عليها في يقظتها.

تشابه مع «تكلم معها» لألمودوفار مع الاختلاف الجذري في المعالجة والقصة

قد يكون أقرب فيلم يحضر في الذهن لدى رؤية فيلم عرقتنجي، هو «تكلم معها» (٢٠٠٢) لبيدرو ألمادوفور. فبطلته أيضاً فتاة تقع في الغيبوبة وتنشأ علاقة حب ملتبسة من طرف واحد، يتوهّمها الممرض الموكل برعايتها. هكذا، يسرد لها يومياته ويسمعها الموسيقى ويعرض لها أجزاء من أفلامه المفضلة. لكن التشابه بين الفيلمين لا يتعدى الثيمة العامة المشتركة، مع الاختلاف الجذري في المعالجة والقصة. فالسينما كغيرها من الفنون ليست فكرة جديدة، إنها رؤيا جديدة، وعرقتنجي يحيك عالماً خاصاً به في هذا الفيلم. إيقاعه سلس وشائك في آن معاً كمقطوعة الأصوات التي تشكلها الحياة. أيضاً، يحاول المخرج ــ عبر بطله ـــ أن يستكشف ويفكك علاقة الصوت والصورة في الفيلم، وكيف يمكن أن يتماهيا سوياً ليشكلا إيقاعاً واحداً. تقطيع المشاهد يتماشى جنباً إلى جنب مع مقطوعة الأصوات التي تشكل عالم البطل. الصمت تقريباً شيء غير موجود كما يصوّر عرقتنجي من خلال عالم الفيلم. حتى في الهدوء الكلي للطبيعة، هناك صوتها الخاص. وللأشياء الجامدة وللأماكن المغلقة أو المهجورة صوتها أيضاً. ليست الأحداث هي التي تفرض إيقاعها، بل إنّ الإيقاع هو الذي يسيّر الأحداث ومشاعر الشخصيات. العلاقة التي تنشأ بين جود ورنا، يسيّرها إيقاع الحوار، إيقاع المدينة، إيقاع الطبيعة. تبدو العلاقة بينهما تكملة لذلك الإيقاع، حصيلة كل الأصوات التي تكوّنها. هذا ما نراه في المشهد الذي يصوّرهما وهما يمارسان الحب في أحد الأماكن المهجورة، وهما يتتبعان كل تلك الأصوات التي تحيط بهما، أو إيقاع العلاقة الملتبسة بين البطل ومروى أخت رنا.
علاقة يسيّرها إيقاع الرغبة الصامتة أو المكبوتة، كما في المشهد الذي يحيكه عرقتنجي ببراعة لمروى وهي تمارس الجنس مع حبيبها، وجود الذي يتوقف للحظة وراء الباب، ومروى التي تلتفت لبرهة كأنها تحس بوجوده، معبراً عن إسقاط الرغبة. المشهد الفعلي يدور بين الاثنين، يتبعه خروجها إلى الشرفة والنظرة التي يتبادلانها كتأكيد على ذلك. أو في مشهد آخر حين ترقص لحبيبها، فيما جود يراقب. مشهد يتناغم فيه إيقاع جسد الممثلة يارا بو نصار وتعابيرها بجمالية مع الموسيقى ليعبر عن كل الغموض المحيط بموضوع الرغبة، وكيف تسير موسيقى الجسد. أداء الممثلين الشباب بعفويته ونفسه الجديد يتماشى أيضاً مع إيقاع الفيلم بدءاً من هادي بو عياش الذي يؤدي دور البطل، وصولاً إلى الممثلات ربى زعرور في دور رنا، ويارا بو نصار في دور الأخت بأدائها المتكمن ضمن الالتباس الذي يطرحه دورها. كذلك الأمر بالنسبة إلى أداء الممثلين المخضرمين كجوزف بو نصار ولمى لاوند ورفيق علي أحمد بأدائه الجميل رغم صغر مساحة الدور. هذا الالتباس التي تطرحه علاقة الأخت بجود، قابل للمزيد من التعمق والصراع بين الرغبة والشعور بالذنب وكل الإسقاطات التي تطرحها هذه العلاقة... لكن رغم ثقل الثيمات الدرامية المتناولة، أراد عرقتنجي الفيلم ديناميكياً مفعماً بالحياة. خيار إخراجي قد يستميل الجمهور الواسع، من دون أن يساوم على الرؤيا الفنية الخاصة بالفيلم، بل يوازي بحنكة بينهما. الحوار جميل بعفويته وبساطته ولو أنه في مقاطع قليلة، يستعيد نفساً أكثر نمطية وتقليدية لا يشابه اللغة العامة للفيلم. لكن الأهم من السيناريو والطرح الجديد الذي يقدمه الفيلم، هو عالم الأصوات والصور الذي يأخذنا إليه عرقتنجي... ذلك الذي لا يروى بل يرى ويعاش، وهذا هو جوهر السينما.

* «اسمعي»: صالات «أمبير»، «غراند سينما»، «فوكس» (01/285582)