للوهلة الأولى، يبدو جديد ماهر أبي سمرا «مخدومين» (2016ـــ 67 د ـ «جائزة السلام» في «برليناله 2016»، وأفضل فيلم غير روائي في «مهرجان دبي السينمائي الدولي» 2016) انتقالاً من السياسي إلى الاجتماعي، في فيلموغرافيا السينمائي اللبناني (1965)، بتناوله ملف الخادمات الأجنبيات في بلده، بعد عدد من الوثائقيات السجالية.
صحيح أنّ ابن شبعا الجنوبية، درس في المعهد الوطني للصورة والصوت في باريس، بعد الفنون المسرحية في الجامعة اللبنانية، إلا أنّه لم يصنع أفلاماً عن المهاجرين (التيمة المفضّلة لدى الدارسين العرب في أوروبا)، رغم عمله كمساعد مخرج ومصوّر في بعضها. فضّل الاشتغال في وطنه وعنه. «عوارض عودة» (1995)، و«إعمار على الموج» (1995) (مع ألدو بنكاري، وجيروم ألامارغو، وجمانة بعلبكي)، و«نساء حزب الله» (2000)، و«دوّار شاتيلا» (2004)، و«مجرّد رائحة» (2007 - أفضل وثائقي قصير في مهرجان DOK لايبزيغ 2007، ومهرجان It’s All True الدولي للأفلام الوثائقية في البرازيل 2008)، و«شيوعيين كنّا» (2010 - «اللؤلؤة السوداء» لأفضل وثائقي عربي في «مهرجان أبوظبي السينمائي») عناوين حسّاسة، متفاوتة، محمولة على الكتف والهواجس الملحّة (زعماء الحرب الأهليّة الذين سمّموا الهواء وحكموا البلد، بؤس مخيّمات اللجوء، تفكيك الطوائف، معاينة أضرار حرب تمّوز، الشيوعيّون المهزومون...). خرج بعضها من بيئة أبي سمرا الزاخرة بالأسئلة والتحوّلات (القرية، ثم الضاحية في بيروت). بعضها الآخر صدر عن موقعه الحزبي الشيوعي سابقاً، وخياراته الملتبسة، وماضيه المنسول من تاريخ دولة وحرب. النموذج ينسحب على كامل الجغرافيا بتلوّنات مغايرة. الخاص يقود إلى العام، والسينمائي إلى السياسي، وبالعكس.

نظام عبودية محكم حيث العاملة رهينة عند «أسياد»، وهؤلاء عبيد بدورهم للاستهلاك والمظاهر

هكذا، يمكن وضع اليد على مكمن الذكاء والخبث في «مخدومين»، الذي يقارب «العقد الاجتماعي اللبناني» متسللاً عبر الباب الخلفي. أكثر من 200 ألف عاملة، في مكان لا يتجاوز مجموع سكانه 5 ملايين نسمة. مفارقة مضحكة في دولة غارقة بالديون والكوارث الأزلية. سايكولوجيا مجتمع يمجّد المظاهر على حساب أساسيات غائبة. نظام عبودية محكم، يحيل على سلسلة افتراس كاملة. الخادمة رهينة عند «أسياد». هؤلاء عبيد بدورهم لنظام استهلاكي برّاق من الخارج، مهترئ من أساسه. توسيع المروحة يحيل على مستنقعات أكبر. نظام طائفي عنصري. لا عدالة اجتماعية. تواطؤ الجميع، بما في ذلك القانون والشرطة. ادّعاء التعاطف من قبل البعض، ليس أكثر من ردّ فعل آني على انتحار عاملة أو تعرّضها للضرب. لنملأ وقت الفراغ بهواية الاكتراث، كما لو أنّنا نفعل عن سابق إصرار. «إستابلشمنت» مشروخ يتنازع الموارد والامتيازات والولاءات الآنية الضيّقة. يختلف على كلّ ما يتعلق بالسير الجمعي نحو المستقبل. الاتفاق الوحيد هو الاستقواء على المستضعفين (الخادمات)، وتفريغ عقد النقص والتحقق فيهم. أليست هذه عقلية المنطقة كلّها؟ السوسيولوجي يأخذنا إلى مظاهر/ أمراض مماثلة، مع اختلاف الحلقة الأضعف في كلّ جغرافيا. المسحوقون في مصر. امّحاء الطبقة الوسطى في سوريا، مع تفشّي ثنائية أمراء الحرب (مسؤولون، زعران، مجرمون...) / ضحايا. مبدعو مواويل الحزن في العراق. المكفولون والمهدّدون بالترحيل وعمّال ملاعب كرة القدم في بعض دول الخليج. منشّطات السياحة الجنسيّة في المغرب. المشترك الإنساني هو البؤس المتفشي، والفساد الذي ينخر كلّ شيء. قد لا يكون كلّ ذلك ماثلاً في ذهن ماهر أبي سمرا عند التنفيذ، ولكنّه حاضر في طبقات الشريط وشيطان إحالاته.
بالعودة إلى الفيلم نفسه. الوسيط المناسب هو «زين»، صاحب وكالة استقدام للعمالة من آسيا وأفريقيا. يساعد زبائنه في اختيار الخادمة الملائمة، ضمن كتالوغ أعدّه لهذا الغرض. تحطّ كاميرا أبي سمرا في مكتب السمسار، لتتحوّل إلى جزء منه. تسجّل طبيعة عمله وأسلوبه. من ناحيته، لا يبخل الرجل في الشرح والإيضاح. يسرد كلّ شيء عن المهنة. يبدأ بالتطور التاريخي، وصولاً إلى طرق جلب العاملات وتكاليفهن، ومروراً بمشاكلهن ووسائل التعامل معهن، أو بالأحرى ضمان استعبادهن بالشكل الأمثل. عالم مروّع، يُحسَب لماهر أنّه أوّل من يفتح أبواب جحيمه في السينما بهذا الشكل. نتذكّر المرور عليه في ريبورتاجات تلفزيونيّة، وبرامج «توك شو»، وخطوط فرعيّة في بعض الأفلام.
مشكلة الشريط في المعادل البصري. الاستعراض الأفقي والعامودي الثقيل لطوابق سكنيّة (تصوير كلير ماتون)، ترافقاً مع تعليق المخرج الهادئ، لا ينتشل الفيلم من شبح المونوتون (توليف رنا صبّاغة وروبين كورنفيلد). طبعاً، لا بدّ من التنويه بجماليته وقوّة تأثيره. الالتصاق بالمكتب يضفي صبغة تقريرية على بعض مفاصل الفيلم. الأدهى أنّ بوح الممثّلة برناديت حديب حول طفولتها، وبديهية وجود الخادمة، وتشكيلات الافتتاح، جاءت كمشهديّات مبتورة. خلال مرحلة التمويل، تحدّث ملخص «مخدومين» («كل واحد وخادمتو» كعنوان مبدئي) عن الممثّلة «ريما» التي تلعب دور خادمة في عرض مسرحي، ولديها عاملة سريلانكية في البيت، ما يضعها وجهاً لوجه أمام الواقع. ذكر الخادمة «لاتي» التي تشعر بالاستياء والغضب على الدوام. في الفيلم، حصل تغيير في زاوية الرؤية. لم تظهر أيّ عاملة، لتعزيز معنى التسليع والتهميش، وعدم جرح أيّ منهنّ. ذلك أنّ ماهر أبي سمرا يعمل بأسلوب «اللا صدمة» على الدوام. يستعمل التحريض الجوّاني على الاستماع وتدوير المخ. يحافظ على مسافة أمان وتقييم، وأحياناً تعاطف، مع الموضوع أو الشخص، بغضّ النظر عن رأيه النقدي تجاهه. ليس مستغرباً الحديث عن الضحية طوال الوقت، من دون عرضها مباشرةً.
في المقابل، يبقى عدم الاشتغال على مستوى الممثّلة والمسرح محلّ تساؤل. نكاد نشهق بحسرة: «ليته تابع هنا»، ليحقق موازياً بصرياً وفكرياً دسماً (حاول فعل ذلك من خلال تعليقه). بيد أنّ «مخدومين» بيان قاسٍ عن قضيّة إنسان، وعدالة مفقودة. مبضع تشريح لمنطقة متهتكة، مافيوية التركيب. كلام هادئ في وجه تحالف من الطرشان. خطاب عقل وسط حفل من الجنون والسعار.

* «مخدومين»: حتى 22 شباط (فبراير) ـــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية) ـ للاستعلام: 01/204080