في «تحت القصف» (2007 ـــ 98 د.) لفيليب عرقتنجي، يقول طوني (جورج خبّاز) لزينة (ندى أبو فرحات) بثقة: «مطرح ما رايحين، واصلين ع حرب عالميّة». بعد 10 سنوات على النبوءة، لا يبدو أنّ سائق التاكسي جانب الحقيقة كثيراً، بخلاف أنّها وقعت في البلد «الشقيق»، مع آثار اجتماعية وأمنيّة على بلاده.
ذلك أنّ عرقتنجي أبحر خارج وطنه أربع مرّات في حياته، هرباً من الحروب المتكرّرة. حلقة مفرغة تصرّ على الاكتمال كل 10 ـ 15 عاماً. الذاكرة منهكة. شبح القصف والانفجارات يحوم طوال الوقت. «هل نبقى أم نرحل؟». سؤال فرد حمولته حتى الأقصى، في الدوكودراما الأوتوبيوغرافي «ميراث» (2013 ـــ 96 د.). سبعة فصول روت سيرة عائلته عبر 100 عام من تاريخ المنطقة، خارجةً بنجاح من الذاتي إلى الجمعي، ومن الخاص إلى العام. تشاؤم عرقتنجي ما بعد حرب 2006، لم يتحقق محليَاً حتى الآن. هذا منحه فسحة تأمّل دسمة في «ميراث»، أغلقت القوس على مرحلة فيلموغرافيّة مرتبطة بالحروب، سواءً بشكل مباشر مثل أفضل عناوينه «تحت القصف» (تيمة ما بعد الحرب post war)، أو من خلال معاينة الأضرار كما في ميوزكال «البوسطة» (2005 ــ 110 د.). كلاهما روائي، وفيلم طريق road movie، وممثّل رسميّ للبنان في تصفيات الأوسكار.
نشأ فيليب عرقتنجي في بيروت. تفتّح وعيه على التقاط صور الحرب. طار إلى لندن، لينخرط في مجال الإنتاج. بعد سنة، بدأ العمل مع «المؤسسة اللبنانيّة للإرسال»، وأخرج أوّل وثائقي في سن 21. جاء عام 1989، لينقل مقرّ إقامته إلى فرنسا. أسّس شركته الخاصّة للإنتاج Fantascope Production، التي اشتغل باسمها جميع أعماله اللاحقة. جال بعدسته بلداناً، ووثّق مواضيع متنوّعة. صوّر الآثار في سريلانكا. تأمّل الزرافات في جنوب أفريقيا. رافق «حلم الطفل البهلوان» (1997 ـ 52 د.) في المغرب. بعد إزالة الحواجز، وفتح الطرق داخل لبنان، تنقّل عبره متحدّثاً إلى الشاهدات على النزاع الأهلي في «من عيون الأمهات» (1992 ــ 52 د.). سريعاً، غازل مدينته في الشريط الشعري «بيروت من أحجار وذكريات» (1992 ــ 18 د.). لامس ندوبها بحنان، مازجاً مشاهد الحطام مع شعر ناديا تويني. في عام 2001، عاد إلى بلده. بدأ العمل على الروائي الأوّل «البوسطة». بين وثائقيات الـ 52 دقيقة، والدوكودراما، والروائي القصير والطويل، جربّ أساليب سرد وتقنيات بصريّة عدّة. هو مولع بالشخصيات المأزومة المثقلة بالماضي، والعلاقات المتأرجحة، والمصائر المعلّقة.
في جديده «اسمعي» (104 د)، يفتتح فيليب عرقتنجي مرحلة جديدة تماماً من شغله. يلقي الحرب وراء ظهره، لحساب قصّة حبّ بين «جود» (هادي بوعيّاش) و«رنا» (ربى زعرور)، تحت أنظار شقيقتها «مروى» (يارا بو نصّار). السيناريو له، بالشراكة مع منى كريّم. العرض الأوّل في العالم، تولّاه قسم «ليالٍ عربيّة» غير التنافسي، في «مهرجان دبي السينمائي الدولي»، الذي اختتم منذ فترة. «جود» مهندس صوت، انطوائي إلى حدّ ما. «رنا» موديل فاتنة، أكثر انطلاقاً وتحرّراً. هو من قرية درزيّة محافظة. هي من عائلة أكثر ثراءً. «مروى» متخصّصة في اللغة العربيّة. ليست بجمال أختها، لكن لا تنقصها الفتنة وقوّة الإغواء.

تنتصر الأفلمة لشريط صوت لافت وحسّاس، من دون التخلّي عن جماليّة الصورة


يتشابه «اسمعي» مع «البوسطة» في التجوال السردي عبر الزمن جيئةً وذهاباً، وفي سفره إلى خارج بيروت ثمّ العودة إليها (توليف دينا شرارة، مروان زيادة، جوليان تافيتيان). طبعاً، التحرّر الجغرافي أكبر في «البوسطة» (راشيا، بعلبك، بيت الدين، عنجر)، كونه فيلم طريق في المقام الأوّل. في «اسمعي»، تشكّل غيبوبة «رنا» إثر تعرّضها لحادث، فاصلاً بين «قبل» و«بعد». حبّهما يشعّ جمالاً واحتفاءً بحلاوة الدنيا، من رقص وجنون ورغبات. «جود» يتغيّر تدريجاً، ليصير أكثر حيويةً وإقداماً. بعد الحادث، يمنعه والدها (جوزيف بو نصّار) من زيارتها. يصرّ العاشق على إنعاش حبيبته. يواظب على تسجيل أصوات تضجّ بالحياة «عم سجّلك مجرى الأصوات، حتى ما يوقف الزمن». يرسلها إلى «مروى»، التي تقوم بتشغيلها قرب سرير «رنا»، على اعتبار أنّ حاسّة السمع سليمة. بالتزامن، يتعرّض الشاب الوسيم لمحاولات تقرّب من المحيطات به. يختبر الإغراء مقابل الإخلاص، والوفاء في وجه الحب.
بالتوازي مع الحكاية العاطفيّة، لدينا المستوى الهام المتعلّق بمعنى الاستماع، وأهميّة الإنصات «العالم بجاوبك على كل تساؤلاتك كل يوم. تعلّمي تسمعيه». عادةً ما تولي السينما العربيّة أهميّة أكبر للصورة. هنا، تنتصر الأفلمة لشريط صوت لافت وحسّاس، من دون التخلّي عن جماليّة الصورة (سينماتوغرافيا: كريستوفر عون). وثائقي «ماء الفضة – سوريا، سيرة ذاتية» (2014ـ 92 د.) لأسامة محمد ووئام سيماف بدرخان، وروائي «علي معزة وإبراهيم» (2016، 97 د.) لشريف البنداري، تجارب مضيئة في الاعتناء الصوتي. «اسمعي ضجيج المدينة» يقول لها. مجاز يتجاوز ضوضاء الازدحام وأبواق السيّارات وقرقعة البناء، إلى نبض عاصمة مرّت بالكثير «الشي الوحيد يلي بعدو على الوفا، هو أصوات الحرب». «بووم» جود ملتقط لأصوات الطبيعة ومنمنماتها أيضاً. الجوّ العام بطل أساسي في الشريط.
إذاً، لا يتخلّى عرقتنجي عن عادته في التعبير تجاه البلد والمدينة. تنوس مشاعره بين الافتتان «بيروت حلوة ورايقة عالصبح. ما إلك إلّا تتسمّعي» والحسرة والإحباط «دمّروا المدينه وهويّتها، ورجعوا عمّروها مشوّهة». يمور بين الانتماء للمكان وخيبة الأمل بأهله. «الله مباركو، بس أهلو دمّروه»، يقول في «البوسطة». ما سبق لا يعني أنّ «اسمعي» فيلم نخبوي، بل يتموضع في الوسط. يشتغل على مستوى من العمق والتقنيّة، مع الحرص على مغازلة الجمهور وجذبه. الحب والشباب والحداثة والحيوية والإغواء مزيج كفيل بتحقيق ذلك.
مشكلة عرقتنجي الدائمة في الروائي، أنّه لا يدع شريطه ينساب براحته. في مفاصل ما، لا بدّ من أن يتحكم، ويلوي عنق المسار والشخوص، لتقول ما يريد، لا كما تفكّر وتتصرّف. هذه ليست مشكلة بحدّ ذاتها، لو مرّت بسلاسة، ومن دون لفت نظر. في الأفلام الثلاثة، تظهر الملاحظة بشكل متفاوت الحدّة والبروز.
في المحصّلة، يحتفي «اسمعي» بما يحبّ صانعه دائماً: الألوان والموسيقى والأصوات والغرام والجسد والجنس والرقص الشرقي، والجرأة من دون ابتذال. ربى زعرور ويارا بو نصّار تستحقان الاحترام على شجاعة الذهاب حتى الأقصى في المشاهد الحميمة، من دون عقد وحسابات لا فنيّة ضيّقة.

*«اسمعي»: بدءاً من اليوم في الصالات اللبنانية