الرباط | تحلّ غداً الأحد الذكرى الأولى لرحيل الطيب الصديقي (1938 ـــ 2016)، الذي كان يلقبه المغاربة بـ «أسد المسرح»، أو «أورسن ويلز العرب» كما سمّته جريدة «لوموند» الفرنسية أواسط الثمانينيات... أب المسرح المغربي وراعيه الكبير على مدار عقود من الزمن، كان فيها الرجل بطلاً، حيثما حلّ، في الإخراج والتأليف والتمثيل، فضلاً عن غوايته في فن التشكيل.
مرّ عام على رحيل صاحب «قفطان الحبّ»، وما زال حلمه الكبير لم يتحقق، فقد كان طوال السنوات الخمس عشرة الأخيرة من حياته يحلم ببناء صرح مسرحي كبير في شارع غاندي في الدار البيضاء، يضم صالة عروض احترافية، وقاعة معارض، وورشة للديكور والملابس، ومقهى ثقافياً وجناحاً لأرشيف الصديقي ومقتنياته الفنية، إضافة إلى مدرسة لتعليم فنون المسرح. وكان الراحل يحلم بأن يدخل المدرسة، فضلاً عن الطلبة، أطفالُ الشوارع واليتامى لدراسة أب الفنون.
انطلقت الأشغال على مساحة ثلاثة آلاف متر مربع في موقع استراتيجي في المدينة، وأخذت حيزاً زمنياً طويلاً. مع ذلك، لم تكتمل، مما اضطر الصديقي إلى افتتاح المنشأة رغم عدم جاهزية قاعة العروض وعدد من المرافق. وعلى مدار سنوات قليلة، نشط المقهى الثقافي ومدرسة التكوين، لكن العوز المادي أسهم باكراً في إغلاق المرفقين معاً، والإجهاز التدريجي على حلم الراحل.
وتزامناً مع انهيار حلم الصديقي، عمدت الدولة إلى تشييد «المسرح الكبير» في ساحة محمد الخامس في الدار البيضاء الذي يفترض أن تنتهي أشغاله في أيلول (سبتمبر) المقبل، وهو مشروع ضخم تناهز كلفته الـ 150 مليون دولار. وبعد رحيل الصديقي، طالبت مجموعة من المثقفين، في عريضة نشرت عبر مختلف وسائل الإعلام ورفعت للجهات المسؤولة، أن يحمل «المسرح الكبير» اسم الطيب الصديقي تخليداً لذكراه وتكريماً لمنجزه الفني. وفي تصريح لـ «الأخبار»، يقول الكاتب والناقد صلاح بوسريف أحد الذين كانوا وراء إطلاق هذه العريضة: «كنت ضمن الذين وقعوا على عريضة تطالب بتسمية «المسرح الكبير» في مدينة الدار البيضاء، الذي هو في طور البناء، باسم الطيب الصديقي، كتحية لهذا الرجل الذي خرجت على يديه أجيال عديدة من المخرجين والممثلين، ومجموعة «ناس الغيوان» هي وليدة أفكار الصديقي، في ما كان يرافق مسرحياته من غناء فرجوي. ولعل تسمية هذا المسرح باسمه، ستتيح لنا جميعاً أن نعترف بعمل الصديقي الكبير، ولغيره من الفنانين الذين لا يمكن تجاهلهم أبداً».

عريضة تطالب بتسمية
«المسرح الكبير» في الدار البيضاء باسم الصديقي


سيظل الصديقي في نظر بوسريف أحد أعمدة المسرح العربي، لأنه «جاء بالمسرح من المستقبل، في ما يعود إلى الماضي. فمسرح الناس عنده، هو اختبار المسرح، في عمقه الاجتماعي، الذي راهن على تحديث الماضي، أو جعله ماضياً لا يمضي. وهذا ما اقتضى، إلباس هذا النوع من المسرح، بعده الفرجوي الاحتفالي. اعتمد مسرحه على البساطة في الديكور، ولم يكن شغوفاً بالملء، أو البهرجة، لأنه اكتشف العمق والتأثير اللذين تحدثهما هذه البساطة، في عمق النص، وما يمكن أن تحدثه الفرجة المتخففة من عبء الديكور الثقيل، من صدمة، أو رجة في التلقي».
يرى الكاتب والناقد المسرحي المغربي عبد الكريم برشيد في تصريحه لـ «الأخبار» أنّ الطيب الصديقي «مثقف مسرحي كبير»، عاش حياته منفتحاً على ثقافات عديدة خارج كل إطار ضيق إيديولوجي أو سياسي أو حتى نقابي، وأن أجمل ما فيه ـ حسب منظّر الاحتفالية - هو تنوع الانتماء أولاً، فهو يجمع بين الأصل الأمازيغي العربي والموريسكي ويتقاطع فكرياً مع الثقافة الأفريقية والمتوسطية والمشرقية، إضافة إلى مزجه في أعماله الإبداعية بين الحكي الشعبي والشعر والحكمة والتراث العربي والمحلي.
يضيف برشيد: «كان الطيب الصديقي قريباً من الناس، حتى أنه سمى فرقته «مسرح الناس»، وآمن بأن المسرح يوجد حيث يوجد الناس، وهذا ما جعله يعيد قراءة «الحلقة الشعبية» و«سلطان الطلبة» و«البساط الشعبي»، كل ذلك من أجل إعادة تأسيس المسرح المغربي تأسيساً مرتبطاً بتاريخ المغرب وثقافاته المتنوعة. ويمكن أن أقول إنّ الطيب الصديقي واحد من أكبر المخرجين المسرحيين في العالم، كان فناناً موسوعياً وحراً، وهل يمكن أن يكون المرء فناناً حقيقياً بدون حرية؟». الناشر المغربي عبد الغفار سويرجي سبق له أن نظم خلال الربيع المنصرم تظاهرة ثقافية حملت عنوان «أسبوع الطيب الصديقي في المغرب» عبر لقاءات في أربع مدن: مراكش، الدار البيضاء، الرباط وطنجة، وتمحورت بالأساس حول كتاب البيوغرافيا الجديد الذي أصدره الكاتب الفرنسي جان فرنسوا كليمان عن دار النشر التي يديرها سويرجي بعنوان «الطيب الصديقي، رجل المسرح» (Les Infréquentables).
يقول الناشر المغربي: «كان له دور مركزي في تحديث المسرح المغربي. ساد وتسيد الركح والخشبة في المغرب طيلة النصف الثاني من القرن العشرين. بعد تلقيه تكوينه الأول في المغرب على يد أندريه فوازان وشارل نيغ، رحل إلى فرنسا ليتكون عند محترفين متمرسين في المسرح هما هيبير جينيو في رين وجان فيلا في المسرح الوطني الباريسي. وعاد إلى المغرب حيث أنشأ فرقته الأولى (المسرح العمالي) قبل تحمّل مسؤولية المسرح البلدي في الدار البيضاء، وسيؤسس بعدها «مسرح الناس». ولا بد من فهرسة لأعمال هذه الفرق، وكذلك لأعمال غيرها من الفرق المغربية العديدة التي ظهرت في المدن المختلفة».
يستعيد سويرجي مرحلة انعطاف مسرح الصديقي قائلاً: «قام الصديقي في بداياته بترجمات عربية لأهم الأعمال العالمية في المسرح، وهو ما بدأه العديد من المثقفين المشرقيين، لكن أغلبهم نقل المسرح الإنكليزي وخاصة مسرحيات شكسبير. تكفل الصديقي بالمسرح الذي شاهده في فرنسا، مبتدئاً بالمسرح المكتوب باللغة الفرنسية: موليير ورينيار، وأعمال أوروربية أخرى لأرابال وغولدوني وسكاربيتا وغيرهم. ثم انتقل الى خلق تراث مغربي محض من خلال مسرحيات تستند في موضوعاتها إلى الثقافة المغربية أو العربية. بادر بمساعدة من أخيه إلى كتابة عشرات المسرحيات الأصيلة وقدم مباشرة ذخيرة أعمال موسعة للفرق المغربية».
الطيب الصديقي بالنسبة إلى برشيد وبوسريف وسويرجي، فنان كبير يحتاج من المغرب الثقافي أن يوليه المكانة التي تليق بمقامه في سياق ثقافة الاعتراف والتقدير. فقد كان مؤلماً للصديقي ألا يتحقق حلمه وهو على قيد الحياة، وسيبقى مؤلماً لمحبيه أن يبقى هذا الحلم مؤجلاً بعد رحيله.