«إنني في الستين وأنا أكتب هذا الكلام». هذا ما يدوّنه الشاعر السويدي توماس ترانسترومر (1931 ــ 2015) في كتابه النثريّ «ذكريات تراني» (1993) الذي انتقل أخيراً إلى العربية عن «الهيئة المصريَّة العامّة للكتاب» (ترجمة طلال فيصل ـ تقديم روبن فلتون).
لا شكّ في أنّ المذكّرات ـ أي مذكّرات ـ تعتبر مدخلاً إلى عالم الشاعر أو السينمائي أو الروائي. ثمّة تداخلات بين ما يكتب في تلك المذكرات أو السير، وبين ما سيقرأه المرء لاحقاً في المؤلفات.
شيء بديهي، فهذا الأمر يُبين العالم الذاتي والداخلي للكاتب بكل تجلٍّ. وبالطريقة ذاتها، يبدأ ترانسترومر في كشف عالمه للقارئ: عالمه في الطفولة، عالمه الذي لا يمكن لأحدٍ أن يشرحه ويفسّره سواه. يبدو توماس أليفاً كعادته في الكتابة عن تجارب شخصيَّة مرّ بها في طفولته مقسِّماً الأمور إلى تفاصيل وجزيئات صغيرة تجتمع بعد القراءة في ذهن القارئ لتكوّن لديه القدرة على فهم ما عاناه صغيراً سواءً من فكرة أو فوبيا ما أو خشيةٍ من شيء مجهول.

تقسيم الكتاب
إلى فصول
ومقاطع قصيرة أشبه بقصيدة نثر

«كنت أتحرّك داخل لغزٍ عظيم، تعلّمت أنّ الأرض كائن حيّ، أنّ هناك عالماً لا نهائي من المخلوقات التي تزحف أو تطير، تعيش حياتها الثريَّة من دون أن تلقي أدنى اهتمام نحو وجودنا». هكذا يدوّن توماس عن حالة ولعه بمتاحف التاريخ الطبيعي المنتشرة في السويد، متحدّثاً بلغة أقرب إلى الشعر عن حكايات الطفولة وبدايات تعرّفه إلى المدرسة وإلى مفردة الحرب، أو لنقل انبلاج مفهوم الحرب لديه، وهو الذي عايش أخبار النازيَّة الألمانيَّة وقتذاك. ولا يخفي الشاعر خلال مستهلّ الكتاب ولعه بالمتاحف، كأن الرجل نفسه آتٍ من متحف قديم هو ذاته من بناه. إذن، طالما أنّ هناك تركيزاً ما على فكرة بعينها لدى الشاعر، فهي (أي النقطة المركّز عليها) تمثّل بالتأكيد شيئاً ما هاماً لديه سيتبلور خلال الكتابة. تقسيم الكتاب إلى فصول ومقاطع قصيرة أشبه بقصيدة نثر، يبعث الارتياح لقدرة القارئ على الإمساك بخيوط المعنى بكل سلاسة.
في حديثه عن أول عهده بالكتب، يسرد كيف وهو الطفل كان يريد عناوين كتب لا تليق بعمره (من وجهة نظر أمين المكتبة آنذاك) من مكتبة بناء «الميدبورجارجست» أو كما تمّت ترجمته حرفيَّاً «بيت المواطنين». فالرغبة في الاستكشاف، أجبرته على استخدام الحيلة للحصول على كتاب يقرأه. وليس غريباً على شاعر بحجم ترانسترومر أن يميل إلى علم الأحياء والجغرافيا والتاريخ: «كانت المواد المفضّلة بالنسبة لي هي الجغرافيا والتاريخ». ويضيف في مكان آخر: «كان العنصر الأكثر أهمية في وجودي هو المرض. كان العالم مجرد مستشفى ضخم. كنت أبصر إزائي كائنات بشرية مُشوّهة الجسد والروح». لا يخفي ترانسترومر ولعه بالشعر القديم، إلّا أنه في الوقت ذاته يكشف عن ولعه بالشعر الحداثي أثناء فترة دراسته في مدرسة تعلّم اللغة اللاتينيَّة. المعلمون بالنسبة إلى ترانسترومر، ليسوا مجرّد أشخاصٍ عابرين. فمن الملفت أن يظلّ الكاتب متذكّراً لوجوه المعلمين الذين مرّوا به. كلٌّ معلّم يملك لقباً في ذهنه المتّقد على الرغم من مرور السنوات الطويلة وتعرّضه للمرض في الفترات الأخيرة من حياته. الكتابةُ من منحى مغاير لما هو مألوف، سرداً وتوريَةً وخطاباً. يبدو ترانسترومر في هذا الكتاب وكأنّه يداعب ذاكرة كلّ من يقرأ من دونَ أن يخدش حياء الخاصّ أو أن يدخل دهاليزَ غير مرغوبةٍ بها. كل ذلك في إطارٍ متكاملٍ من التسلسلِ والمرونةِ التي لا تكفّ عن مداعبة ذكريات أيّ كائنٍ آخر. لكن على الرغم من وعورة التذكّر، إلّا أنّ ترانسترومر يبدو أليفاً ومرتاحاً في السرد. تفهمه من دونَ أن يضطرّ إلى الشرح مسهباً. فالمقاطع أشبه بقصيدةٍ نثريَّة قصيرة نسبيَّاً، مغادراً الكآبة مولجاً القارئ إلى داخلِ تذكُّرٍ بطيء للأحداث التي مرّت به طوال ستين سنةٍ خَلَت. بذلك، نكوّن معه مزاجاً خاصَّاً بهذا الشاعر الفريد الذي آوى السكينةَ ومزجها مع الخوف في إتقانٍ غير معهود لأي شاعرٍ آخر.