الرباط | إلى حدود الثمانينيات، كنتَ تمرّ من الدروب الضيقة في المدن العتيقة في المغرب، كمراكش وفاس ومكناس وتارودانت وغيرها، فتسمع أغنيات الملحون تنبعث من المذياع أو المسجّل الذي يشغل حيزاً في دكاكين الصُّنَّاع التقليديين على اختلاف حِرفهم.
كان الملحون الفنّ الأثير لدى النسّاج والعطّارين والإسكافيين وصنّاع الأرابيسك والجلد والحديد وصائغي الفضة والذهب والنحاس. وقبل ذلك، ومنذ زمن سحيق، كان هذا الفن الفريد يشكّل العنصر الموسيقى الأساسي في جلسات الملوك والسلاطين والولاة الذين تعاقبوا على حكم المغرب على مدار قرون.
في مراكش مثلاً، لم يكن لجلسات «النزاهة» في الحدائق والبساتين و«الرياضات» من معنى إذا لم تكن هناك أغاني الملحون التي يشربها «الذواقيون» مع كؤوس الشاي. لكنّ هذا الفن التاريخي بدأ يتراجع إلى الخلف، ويتوارى بالتدريج تزامناً مع صعود الموجات الغنائية الجديدة في نهايات القرن، بدءاً من فن الرّاي والرّاب، وصولاً إلى الأغاني العصرية الخفيفة التي تتقاطع مع الغناء الشرقي أكثر مما تمتد في التراث المحلي، وتزامناً أيضاً مع رحيل جيل المنشدين الذين ولدوا مع بدايات القرن الماضي، خصوصاً الحسين التولالي (1924-1998) أحد أشهر من تغنوا بهذا اللون الفني في الزمن المعاصر. ظهر فن الملحون في المغرب في عصر السعديّين تحديداً، وحافظ على حضوره على مدار خمسة قرون. وحين طفت على السطح الموسيقى الجديدة في المغرب، تلك التي تجلب بالنسبة للعديد من ممارسيها المال والشهرة والأضواء، تراجع الملحون كفن لم يكن المال ولا الشهرة يشكلان على مر التاريخ أحد مراميه. هو فن الأنس والجلسات النخبوية الخاصة التي لا تراهن على جمهور، بل فقط تحتاج إلى أفراد قلائل يحسنون الإصغاء للقصائد أولاً، ويطربون للنقرات القليلة على الآلة الوترية التي يصاحبها إيقاع خفيف ينخفض أكثر حين يشرع المغني في إنشاد كلماته، ولا يعلو إلا في اللحظات الأخيرة التي تفضي إلى نهاية الأداء.

النصوص تتناول موضوعي «المدح» الذي يرتبط بمدح الرسول، و«العشّاقي» الذي يشمل الغزل

راهن نُظّام الملحون ومنشدوه بالأساس على الكلمات أكثر من رهانهم على الموسيقى، فنصوصه المغناة موزونة وقريبة من الشعر العربي الكلاسيكي، وحافلة بالبلاغات الأدبية، غير أنها تعتمد دائماً على الحكاية، فالسرد يشكل العمود الفقري لكل أغاني الملحون. وتتميز قصائده بتعدد بنياتها الإيقاعية التي تجاوزت بحور الشعر العربي الفصيح، غير أن مضامينها لم تخرج في معظم النصوص وأكثرها تداولاً عن موضوعين أساسيين. الموضوع الأوّل هو «المدح» الذي يرتبط في الغالب بمدح الرسول، ويضم أيضاً الحِكم والمواعظ والمحكيات الدينية، والثاني يسميه أهل الميدان «العشّاقي»، ويشمل كل النصوص الغزلية، سواء تلك التي تعبر عن مشاعر العاشق نحو محبوبته، أو تلك التي تتوقف بشكل مفصّل عند جماليات جسدها، إضافة بالطبع إلى قصائد أخرى تدخل في أغراض الشعر العربي القديم كالهجاء والرثاء، فضلاً عن الفكاهيات والخمريات التي يطلق عليها أهل هذا الفن اسم «الدالية».
ما يميز قصائد الملحون هو تلك اللهجة المغربية الأنيقة، التي تقترب كلماتها من العربية الفصحى في الغالب، وتحيل على لغة التواصل لدى المغاربة في العصور السابقة. كما تحمل في طياتها بعض المفردات التي تعود إلى الثقافة البدوية في المشرق العربي، بل إن للملحون روافد عديدة، إذ توقف الباحثون في هذا اللون الغنائي عند تقاطع حضارات الأندلس والمشرق والأتراك مع الثقافة المحلية. معظم شيوخ الملحون ماتوا تباعاً، ونظم القصائد الجديدة توقف منذ زمن، وما يفعله شباب اليوم، وهم فئة قليلة في كل الأحوال، هو تكرار الأغاني القديمة. أما التلفزيون المغربي بقنواته المتعددة، فقد صار من النادر أن تشاهد فيه فرقة للملحون يجلس فيها الرجال بطرابيشهم الحمراء وجلابيبهم البيضاء، والنساء بقفاطينهن الفاتنة، ليتغنى الجميع بقصيدة في مديح الرسول أو في وصف الحبيبة.

■الراحل الحسين التولالي أبرز مطربي الملحون في المغرب – قصيدة الغرام

https://www.youtube.com/watch?v=zuDc1qXuRDk




■الحسين التولالي – قصيدة فاطمة







■ نبيلة معن تؤدي الملحون بستايل جديد







■ وثائقي عن الملحون المغربي