بين العامين 1928- 1932، عثرت بعثة أثرية فرنسية، برئاسة موريس دوناد، في مدينة جبيل بلبنان على عشرة نقوش بنظام كتابي غير معروف لنا من قبل، وبلغة غير معروفة، وإن كانت الغالبية تفترض عموماً أنّها لغة كنعانية - فينيقية قديمة. نشر دوناد النصوص ورسمه لها عام 1945، وسمّى هذا النظام الكتابي باسم «الهيروغليفية الزائفة» Pseudo-hieroglyphic، أو «مقطعية جبيل» Byblos Syllabary.

الفكرة العامة أنّ الجزيرة العربية لم تكن في ذلك الزمن قادرة على إنشاء نظام كتابي بهذه الفرادة والتعقيد

الاسم الأول نابع من واقع أنّ هذا النظام الكتابي غير المألوف لنا، يستخدم علامات تصويرية في نصوصه، مثل صورة طائر أو عين بشرية، وهو ما يقرّبه من الهيروغليفية، ولو شكلياً. أما الاسم «مقطعية جبيل»، فنابع من أنّ عدد العلامات الكتابية في هذا النظام فيها أكبر بكثير من أن تكون الفباء، وأقل بكثير من أن تكون نظاماً هيروغليفياً كالنظام الكتابي المصري. بالتالي، يفترض أنه كتابة مقطعية.
وفي الكتابة المقطعية، فإنّ لكل صوت ثلاث علامات. فالجيم مثلاً لها ثلاثة أشكال: مع الفتحة، ومع الضمة، ومع الكسرة. بذا فإن لغة مكونة من 22 حرفاً كالفينيقية تحتاج إلى 66 علامة لكتابتها. وأصوات اللغات السامية تقع بين 22 و30 صوتاً. بذا فلو كنا مع لغة مثل لغة أوغاريت، المكونة 30 حرفا، فيجب أن يكون لدينا ما يقرب من 120 علامة لكتابتها مقطعياً. أما اللغة العربية، المكونة من 28 صوتاً، فتحتاج إلى أكثر من ثمانين علامة.
وقد أحصى دوناد 114 علامة في النقوش التي اكتشفها. لكن هذا لم يكن مقنعاً للكثيرين، لذا جرت محاولات لتقليص عدد هذا العلامات على فرض أنّ اللغة فينيقية وتحتاج فقط إلى ما يقرب من 66 علامة.

محاولات فك اللغز

للصورة المكبرة انقر هنا

وقد جرت محاولات عديدة لفك لغز هذه الكتابة. المحاولة الأولى، وجاءت بعد سنة من نشر النقوش، قام بها إي دورم E. Dhorme. وقد نهضت على افتراض أن اللغة فينيقية. وقد حظيت هذه المحاولة بأكبر اهتمام، رغم أنها لم تقبل في نهاية الأمر. ثم جاءت بعد ذلك بسنوات طويلة محاولة من جورج مندنهول: George E. Mendenhall الذي بدأ بمحاولة قراءة النقوش على أنها فينيقية، وانتهى إلى أن أعلن أنها ليست لغة فينيقية، بل هي لغة أقدم من اللغة الفينيقية. إنّها لغة ما قبل الانشقاق بين اللغات السامية الغربية إلى شمالية - غربية وجنوبية، أي بين اللغات الفينيقية- الآرامية ولغات شبه الجزيرة العربية. انطلاقاً من ذلك، فقد دفع بتاريخ النقوش عدة قرون إلى الوراء، أي إلى حدود 2400 ق.م. والتاريخ المقبول لهذه النقوش عموماً يضعها في فترة حكم الهكسوس لمصر أو قبيلها، أي أننا بين القرنين السادس عشر والثامن عشر قبل الميلاد. وقد رفضت محاولة مندنهول كما رفضت محاولة دورم. كذلك جرت محاولات لقراءة النقوش على أنها هيروغليفية حثية أو كتابة يونانية. لكن هذه المحاولات لم تقبل أيضاً. وباختصار ظل اللغز لغزاً، وظل الملف مفتوحاً.
ويعتقد الكثير من الباحثين أن العجز عن حل اللغز نابع من قِصر النقوش. فهي لا تكفي لحل هذه النقوش بشكل انتظامي من داخلها. أما أنا، فأعتقد أن الفشل في حل لغز هذه الكتابة نابع من الفرضية الأساسية عند الغالبية، والتي تقول أن هذه اللغة يجب أن تكون لغة كنعانية - فينيقية.

لغة هذه النقوش عربية شمالية على علاقة وطيدة بلغة القرآن
هنا تكمن المشكلة في نظري. فهذه الفرضية تتعامل مع فينيقيا على أنها كيان «فينيقي» ثابت متماسك، وتغفل التغيرات السياسية والديمغرافية الإقليمية التي عصفت بفينيقيا بين الحين والحين. لم تكن «فينيقيا» دوماً «فينيقية». فقد اجتاحها غزاة كثيرون، وبقي بعضهم فيها قروناً. بذا لا يمكنك أن تفترض حين تجد نظاماً كتابياً غير معروف لنا أن تحكم فوراً بأنه فينيقي. فقد يكون حثياً، أو يونانياً، أو من جزيرة العرب. وقد اختبرت الفرضيتان الحثية واليونانية، فلم تؤتيا ثماراً. أما فرضية الجزيرة العربية، فلم تختبر. ذلك أنّ الفكرة العامة أن الجزيرة العربية لم تكن في ذلك الزمن البعيد بقادرة على إنشاء نظام كتابي بهذه الفرادة والتعقيد، كما أنها لم تكن بقادرة على شن غزو يوصلها إلى جبيل بفينيقيا. كان هذا ممكناً فقط مع ظهور الإسلام.
والحال أن ما توصلت إليه يعاكس هذا. فلغة النقوش لغة من لغات شمال الجزيرة العربية. كما أن نظامها الكتابي هو أبو ألفبائيات الجزيرة العربية شمالاً وجنوباً، وعلى الأخص ألفبائيات الشمال من «لحيانية، ديدانية، ثمودية، صفائية، حسمائة» إلخ. وكان هناك منذ البدء من رأى، مثل أولبرايت، تشابهاً ما بين النظام الكتابي الذي نتحدث عنه وبين ألفبائيات الجزيرة العربية. لكنه لم يكن ممكناً افتراض أن هذا النظام قادم من جزيرة العرب. إذن فلا بد أن تكون ألفبائيات الجزيرة العربية هي من قلد هذا النظام «الفينيقي»! الغريب. أي لا بد أن يكون هذا النظام أباها. أما أنا، فقد قلبت المعادلة. فمقطعية جبيل تجد أصلها في شمال الجزيرة العربية، بل إنها قادمة من هناك مع غزاة أتوا من هناك. غزاة كانوا في جبيل قبل ما يقرب من 2300 عام من الفتح العربي لبلاد الشام.

لغة عربية قديمة

أكثر من هذا، فإنّ لغة هذه النقوش قريبة من اللغة العربية حد أنّها يمكن وصفها بأنها عربية قديمة. أعرف أن هذا لن يسر كثيرين، ولن يسر كثيراً من «الفينيقيين اللبنانيين» على وجه الخصوص، بل وأعرف أن بعضهم قد ينتحر إذا ثبتت صحة ما توصلت إليه. لكن ما باليد حيلة. النقوش عربية شمالية، بل وعربية قديمة على علاقة وطيدة بلغة القرآن، والنظام الكتابي نظام عربي مقطعي قديم.

اسم هذا الإله يرد بصيغ متعددة منها «مطعم الطير»، ويعد واحداً من أهم الآلهة العربية، وهو إله عائلة الرسول


أعرف أنّ هذا لن يقبل بسهولة. بل وأنه سيرفض. فكيف يمكن للغة العربية، أو لأمها القديمة، أن تملك نصوصاً كتابية أقدم ربما بأربعة قرون من أي نصوص فينيقية نملكها، وأقدم بستة أو سبعة قرون من أي نصوص آرامية؟ نصوص أقدم من نصوص التوراة بألف سنة على أقل تقدير. هذا أمر صادم، ولن يقبل بسهولة. وهو لن يقبل بسهولة أيضاً لأنه يأتي على الأخص من شخص من خارج «الحقل»، الذي هو حقل فيه الكثير من التلاميذ غير النجباء. كما أعرف أن من يكتب بالعربية حول قضايا هذا الحقل يشبه من «يرقص في العتمة»، لن يراه أحد. لكن ماذا علي أن أفعل؟ ما توصلت إليه يجب أن يعلن.

اللوح البرونزي «سي»

سوف أركز هنا على اللوحين البرونزيين D و C، فهما اللوحان اللذان يكادان يكونان مكتملين. النقوش الأخرى تالفة بهذا القدر أو ذاك، وليس من السهل اكتشاف «القصة» التي تتحدث عنها. وقد بدأت محاولتي لفك اللغز باللوح «سي». لذا سأبدأ به هنا.
وقد قرأت في هذا اللوح بين السطرين الأول والثاني ما يلي:


سطر 2:




سطر 3:




[ب] ت ر خ. س ن ت. ا
ل ف ل. ز ك ر و
العلامة الأولى مطموسة. وقد قدرت أنها حرف الجر باء. وقد وضعتها بين قوسين للإشارة إلى أنّها من تقديري. وبإضافة حروف العلة التي لا تكتب عموماً، يصير لدينا ما يلي:
«بتاريخ سنة الفيل زكرو».
هذه جملة عربية لا غبار عليها. ومن الواضح أن «سنة الفيل» إشارة مباشرة إلى «عام الفيل» الشهير في الجاهلية، والذي يفترض أن غزواً حبشياً بالفيلة للكعبة جرى فيه، لكن انتهى بالدمار عبر «الطيور الأبابيل» الأسطورية. وكنت قد جادلت منذ سنوات طويلة أنّ «عام الفيل» ليس عاماً محدداً في تاريخ مكة، بل عام ميثولوجي دوري، لكننا لا نعلم مقدار دورته. نحن نعرف مثلاً أن دورة «سنة الحمار» قرن كامل. لكن دورة «عام الفيل» ليست معروفة لنا. وقد أخبرنا أن الرسول محمد ولد في عام الفيل هذا. وهذا يعني أن مولده توافق مع الدورة الأخيرة لعام الفيل، التي حدثت في أواخر العصر الجاهلي، وليس أكثر من ذلك.
وها هي نقوش بيبلوس- جبيل تؤكد ما كنت خمنته من قبل. أي تؤكد وجود «سنة فيل» قبل 2300 سنة من الغزو الحبشي المفترض. غير أن اسم الفيل اختلف. فبينما نجد أن اسمه «زكرو» في لوح جبيل، فإن المصادر العربية تخبرنا أنّ فيل مكة كان اسمه «محمود». والاسم زكرو ربما عنى «الضخم، العظيم» أو «الشديد الحمرة». ذلك أنّ جذر «زكر» العربي يعطي هذين المعنيين: «تَزَكَّرَ بطنُ الصبي: عَظُمَ وحَسُنَتْ حاله. وتَزَكَّرَ بطنُ الصبي: امتلأَ... وعَنْزٌ زَكْرِيَّةٌ وزَكَرِيَّةٌ: شديدة الحمرة» (لسان العرب).
وفي نهاية اللوح قرأت:

سطر 13:




سطر 14:




13: ب. ي م. ك ث
14: ح. ث ا ث. و ف ص د ت ه
ومع حروف العلة: «بيوم كثح ثأث وفصدته».
من الواضح أن النص يتحدث عن شخص، قد يكون ابن كاتب الناص، أصابه مرض ما، فعمد الكاتب إلى فصده، إي إسالة دمه. ونحن نعلم أن الفصد كان في الماضي علاجاً لأمراض عديدة جداً. بل لعله كان رأس العلاجات كلها. وقد ظننت في البدء أن العلامة يجب أن تكون شيناً. بالتالي فالشخص اسمه «شأش»، وهو تنويع على «شأس» في العربية. أما مرضه فهو «الكشاح»، وهو مرض شهير يصيب الخاصرة. لكنني قررت في النهاية أن هذه العلامة هي الثاء، مع قليل من الشكوك. وإذا كنا مع الكثح فربما تعلق الأمر بمرض نابع من طراز «لفحة هاء» كما يقال في العامية. ذلك أنّ جذر «كثح» يشير إلى انكشاف جزء من الجسم بالريح: «الكَثْحُ: كشف الريح الشيءَ عن الشيء. يقال منه: كَثَحَتِ الريحُ الشيءَ كَثْحاً وكَثَّحَتْه كشَفته... كَثَحَتْه الريح: سفت عليه التراب أَو نازعته ثوبه ككَتَحَتْ» (لسان العرب). ومن المحتمل أن هذا الانكشاف هو الذي سبّب المرض.

اللوح البرونزي «دي»

أما في اللوح البرونزي «دي» فقد قرأت ما بين السطرين 17 و18 ما يلي:

سطر 17:



سطر 18:



17: ب ح ا ت ر ي
18: د ب ي ت. س د ن. م ن ة..
وبتجاهل العلامة الأخيرة في السطر 18 مؤقتاً ، يكون لدينا مع حروف العلة ما يلي:
«بحاتري دبية سادن مناة»
الباء الأولى حرف جر. أما كلمة «حاتري» فهي من جذر «حتر» الذي يعني: أحكم العقد أو العقدة. وهو يستخدم في العقود التجارية وغيرها على وجه الخصوص، يقال: «بينهم عَقْد مُحْتَر: قد اسْتوثق منه؛ قال لبيد: وبالسَّفْحِ من شَرْقِيِّ سَلْمَى مُحاربٌ شُجاعٌ/ وذُو عَقْدٍ من القومِ مُحْتَرِ. وحَتَرَ العُقْدَة أَيضاً: أَحكم عَقْدَها» (لسان العرب). بذا فمن وثق العقد وأحكمه هو «دبية سادن مناة». والحديث يجري عن عقد توريد بضائع لعدد من معابد الآلهة. أما الاسم «دبية»، فمعروف جيدا في العالم الديني لشبه الجزيرة العربية. فقد كان اسم سادن معبد العزى في بطن نخلة عند ظهور الإسلام «دبية بن حرم السلمي». وقد قتل دبية، وأحرق المعبد وشجرات السمر فيه. ورثاه أبو خراش الهذلي بقوله:
ما لـدبـية مـنـذ الـيوم لــم أره
وسط الشروب ولم يلمم ولم يطـف؟!
لو كان حياً، لغـاداهـم بمـتـرعةٍ
من الرواويق من شيزى بني الهطف
ضخم الرماد، عظيم القدر، جفنـتـه حين الشتاء كحوض المنهل اللقـف
أمسى سـقـام خـلاءً لا أنـيس به
إلا السباع ومر الريح بـالـغَـرَفِ.
لكن في النص الجبيلي فإن دبية اسم لسادن الإله مناة لا الإلهة العزى.
وبين السطرين 12 و13 قرأت ما يلي:
سطر 12:





سطر 13:




سطر 14:






سطر 15:



12: ...... و أ ث
13: ت. لـ م ط ع م. ض ر ي ك.
14: ب ي ف ي ج ب ع. ك ي. ج ذ ان. ي
15: د ش ن

هنا أيضاً نتجاهل العلامة
مؤقتاً. وبإضافة حروف العلة يصير لدينا:
«وأثت. لمطعم الضريك بيفي جبع كي جوذان يدشن»
أما «أُثت» فجمع أثاث. وأما مطعم الضريك فإله سوف نتحدث عنه بعد قليل. بناء عليه، فهناك أثاث لمعبد الإله «مطعم الضريك» في منطقة «يفي جبع» سوف يدشنه شخص اسمه «جوذان». والجذر دشن يعطي معني: الأخذ، أو الافتتاح. لكن المصادر العربية تقول إن المعنى الثاني ليس عربياً أصيلاً، بل تقول عنه إنه «عراقي»، أي آرامي أو أقدم من ذلك. بالتالي فالمفترض أن كلمة «يدشن» هنا تعني: يأخذ. فجوذان سوف يستلم الأثاث الذي سيرسل لمعبد الإله «مطعم الضريك» في يفي جبع. والحقيقة أن وجود أثاث في القصة يوحي أنّ الأمر يتعلق بتدشين هذا المعبد، أي بافتتاحه. وهذا يؤكد أن معنى التدشين (الافتتاح) في الجذر العربي أصيل جداً.

العلامة



نعود الآن إلى العلامة التي أجلنا الحديث عنها. وقد وجدناها بعد اسم الإله «مناة» مباشرة: وداخل اسم الإله «مطعم الضريك»

انطلاقاً من هذا، فقد توصلت إلى أنّ هذه علامة مخصصة للألوهية. فأينما وجدت في نصوص مقطعية جبيل يكون هناك اسم إله. هذه قاعدة وقانون. وقد تكررت هذه العلامة 11 مرة في اللوح البرونزي «دي». وهذا يعني أنّ ثمة 11 إلهاً مذكوراً في النص. لكن الحقيقة أنها عشرة آلهة. فهناك إله تكرر اسمه في السطر الأول والسطر 19.
بذلك، فهذه العلامة حاسمة في فك لغز مقطعية بيبلوس، وفي اللوح «دي» على وجه الخصوص. وحين فهمت دورها، حلت عملياً مشكلة اللوح «دي». وقد تكررت هذا العلامة ثلاث مرات في النقوش الأخرى.

الإله مطعم الضريك

قلت إنّ النص يتحدث عن معبد للإله «مطعم الضريك»، فمن هو هذا الإله الغريب الاسم؟ وماذا يعني اسمه؟
للإجابة على هذا السؤال، يجب أن أعود بكم إلى أبحاثي في ديانة مكة قبل الإسلام التي بدأتها بالفصل الشهير «الطائر المخمور». ففي ذلك الفصل تحدثت عن إلهين عربيين مركزيين، تجاهلهما الباحثون، وهما: مجاوز الرياح، ومطعم الطير. وقد كانا منصوبين على الصفا والمروة كما يخبرنا اليعقوبي: «ونصبوا على الصفا صنماً يقال له: مجاور الرياح، وعلى المروة صنما يقال له: مطعم الطير». (تاريخ اليعقوبي، مجلد 1، ص 254، دار صادر). الاسم «مجاوز الرياح» وقع فيه تصحيف، فصار «مجاور الرياح»، وهذا ما صعب فهمه. لكن حين أعدنا النقطة الضائعة اتضح معنى الاسم، فهو يعني «ساقي الخمر». أما «مطعم الطير»، فواضح المعنى تماماً. والاثنان على علاقة بالسقاية- سقاية الخمر، لا سقاية الحجيج- وبالرفادة. فالرفادة هي إطعام الطعام. ويبدو أن عبد المطلب، جد الرسول، كان كاهناً لهذا الإله. ذلك أنه كان يدعى «مطعم الطير». أي أن كاهن الإله، وممثله على الأرض، يحمل اسمه.
الإله «مطعم الضريك» في اللوح الجبلي هو صيغة أخرى من الاسم «مطعم الطير». فالضريك في اللغة هو النسر: «الضَّرِيك: النَّسْر الذكر». بذا فالاسم يعني «مطعم النسر». لقد حل «النسر» محل «الطير» لا غير. ولمن لا يقتنع بهذا، نزيد بأنه كانت هناك نسخة أخرى لاسم هذا الإله قبيل الإسلام.، هي نسخة: «غيث الضريك». و«غيث الضريك» هو لقب قتادة بن مسلم الحنفي: «أقرى من غيث الضريك: وهو قتادة بن مسلمة الحنفي، وكان أجود قومه» (أبو هلال العسكري، جمهرة الأمثال). وجملة «غيث الضريك» تعني بالضبط: «مطعم الضريك». فالغيث هو الإطعام. بذا يمكن افتراض أن هذا الرجل كان، مثله مثل عبد المطلب، كاهنا للإله «غيث الضريك» أو «مطعم الضريك».
هذا الإله بأسمائه المتعددة: «مطعم الطير»، «مطعم الضريك»، «غيث الضريك»، أو في نسخة رابعة «مطعم الطير الرخم» - والرخمة هي طراز من النسور- واحد من أهم الآلهة العربية. وهو إله عائلة الرسول. وعائلة الرسول كانت من طائفة «الحلة». وهذا يعني أن هذا الإله كان إلهاً لهذه الطائفة. أما نظيره «مجاوز الرياح» فهو في ما يبدو إله طائفة الحمس.
بقي نقطة لا بد من الحديث عنها، وهي عدم وجود أل التعريف في الاسم «مطعم ضريك». فلماذا سقطت هذه الأداة من الاسم، في حين أنها كانت موجودة في «سنة الفيل» في اللوح «سي»؟ يبدو لي أن أل التعريف الشمسية لم تكن تكتب في هذا النظام الكتابي. كان يكتفى بتشديد الحرف الذي بعدها، وذلك على عكس الأل القمرية. الأل الشمسية لا تنطق، لذا لا تكتب..

* شاعر وروائي وباحث فلسطيني ــ العرض جزء من كتاب عن مقطعية جبيل يعمل المؤلّف عليه حالياً.