بعد روايتي «مساس» (2002)، و«كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب» (2004)، وبعد كتابها «حراك» (2012) الذي تناولت فيه تجارب بعض الفنانين الفلسطينيين، ها هي الكاتبة والروائية الفلسطينية عدنية شبلي (1974) تصدر روايتها الجديدة «تفصيل ثانوي» (دار الآداب). رغم صغر حجمها، إلا أنّ الرواية تطلبت عشر سنوات من «البحث والكتابة والشطب» لتروي لنا قصة فتاة من النقب، اغتصبها جيش الاحتلال وقتلها عام 1949، وقصة فتاة أخرى في وقتنا الراهن تحاول البحث عن تفاصيل الجريمة التي ستصادف بعد 25 عاماً على وقوعها في يوم مولدها.
أكثر من عشر سنوات مرت بين الرواية الجديدة وتلك التي سبقتها. في ظل غزارة الإنتاج لدى بعض الروائيين العرب الذين يظهرون بعناوين جديدة كل عام، سنتساءل: هل رواية بـ 129 صفحة بحاجة إلى كل ذلك الوقت؟ يتضح لنا بعد قراءتها أنّ العمل كأنّه خضع لعملية نبش وبحث، وتكرير وتنقيح لفترة طويلة. تطالعنا رواية مكثفة بدون ثرثرة وزوائد، ولا تفاصيل جانبية لا حاجة لها، إلى درجة أننا لو قمنا بالقفز عن فقرة واحدة، سنشعر بأنه فاتنا الكثير، كأن الكاتبة أرادت لعملها الجديد أن يكون أشبه بـ «شوت» واحد قصير ذي مفعول قوي.
جاءت الرواية في جزءين، عالمين وزمنين وحتى لغتين مختلفتين. حتى السرد جاء مختلفاً، سيذكرنا الجزء الأول بـ «مدن الملح» لعبد الرحمن منيف، وسيكون السرد من جهة الراوي، حيث تتناول الكاتبة قصة اغتصاب وقتل فتاة بدوية في منطقة النقب جنوب فلسطين، بينما الجزء الثاني سيذكرنا بـ «الغريب» لألبير كامو، إذ ستغير شبلي أسلوب السرد فيه إلى زاوية المتكلم، وستسرد قصة الفتاة التي تنطلق في رحلة بحث يائسة عن تفاصيل الجريمة من رام الله إلى منطقة النقب؛ مستعينة بهوية صديقتها الزرقاء التي ستمكنها من دخول الأراضي المحتلة عام 1948 وسيارة نمرة صفراء مستأجرة وبعض الخرائط، بالإضافة إلى علبة علكة تم توظيفها في الرواية بشكل لافت وذكي تستعين بها في المواقف الصعبة، تلك التي تتناولها بطلة الرواية كلما أحست بتهديد أو بقلق، كأن الإنسان بحاجة إلى أي وسيلة ولو كانت تافهة للتغلب على الضعف المفرط أو تسكينه.

رواية «تفصيل ثانوي»
تذكر بـ «غريب» كامو و«مدن الملح» رائعة منيف


الرواية القائمة على السرد فقط، ستخلو من الحوار تقريباً. لن نعثر فيها حتى على اسم واحد، فجميع شخصياتها بدون أسماء. ستطالعنا لغة متقشفة وبسيطة، إلا أنها غير متكلفة ومتحررة من البهرجة والتنميق. ورغم أن الرواية ترتكز إلى جريمة اغتصاب الإنسان والأرض في آن، إلا أنها استطاعت الابتعاد عن الخطاب السياسي المباشر الذي طالما حضر في الرواية الفلسطينية.
تكتب شبلي رواية كأنها جاءت من السينما وستذهب إلى السينما أيضاً. هل كان ذلك في الحسبان؟ لا ندري، لكن العمل وعناصره الأساسية (الاغتصاب، الذاكرة، البحث) سيذكرنا أيضاً بفيلم «مومينتو» للأميركي كريستوفر نولان. وكما في الفيلم، برعت الكاتبة في الحفاظ على عنصري التشويق والغموض من البداية وحتى النهاية. إلا أننا سنشعر لوهلة بخشيتها من الإثارة، كواقعة الاغتصاب التي تسردها بشكل مغرق في احتشامه، أو ربما حاولت تجنب الإثارة السهلة، واكتفت بإيصال الفكرة فقط.
هو «تفصيل ثانوي» في حجمه الظاهر ربما، لكنه جوهري في رمزيته وتاريخه وإسقاطاته الكثيرة؛ فالفتاة المغتصبة عام 1949 قد تكون بشكل أو بآخر هي نفسها الفتاة التي أتت بعد 67 عاماً لتبحث عن الجريمة، بل ستتشارك معها في الكثير من التفاصيل التي وردت بين ضفتي رواية جاءت بنهايات مفتوحة. في الجزء الأول، يظل مصير الضابط القاتل المغتصب مجهولاً (الضابط المريض والمصاب بلسعة ثعبان. هل هو إسقاط على كيان الاحتلال أيضاً؟). أما في نهاية الجزء الثاني الذي تنتهي به الرواية، فستواجه الفتاة مجموعة من جنود الاحتلال. ستشعر بالخوف والقلق الشديدين، ستمد يدها إلى جيبها لتناول العلكة إياها (مد اليد إلى الجيب هل هو إسقاط على عشرات الشهداء الذين قتلوا لمجرد وضع أيديهم في جيوبهم؟)، ليسمع بعدها صوت إطلاق نار. هنا تنتهي الرواية؛ مشرعة على كل الاحتمالات وعلى حدث واحد وأكيد هو الطلقة، تلك الطلقة التي ستتركنا الكاتبة من دون أن نعرف أين استقرت.