ها هو ماهر أبي سمرا (1965) يصل إلى الفيلم السابع. لم تكن الرحلة سهلةً، مذ قام ابن شبعا في الجنوب اللبناني بدراسة الفنون المسرحية في الجامعة اللبنانية، قبل أن يطير إلى المعهد الوطني للصورة والصوت في باريس مطلع التسعينيات.
هناك، عمل مساعد مخرج ومصوّراً في أفلام عن المهاجرين. لم يصنع أشرطةً باسمه عن التيمة المفضّلة لدى الدارسين العرب في أوروبا. فضّل الاشتغال في بلده وعنه: «عوارض عودة» (1995)، و«إعمار على الموج» (1995) (مع ألدو بنكاري، وجيروم ألامارغو، وجمانة بعلبكي)، و«نساء حزب الله» (2000)، و«دوّار شاتيلا» (2004)، و«مجرّد رائحة» (2007 - أفضل وثائقي قصير في مهرجان DOK لايبزيغ 2007، ومهرجان It’s All True الدولي للأفلام الوثائقية في البرازيل 2008)، و«شيوعيين كنّا» (2010 - «اللؤلؤة السوداء» لأفضل وثائقي عربي في «مهرجان أبوظبي السينمائي»). عناوين سجالية، حسّاسة، محمولة على الكتف والهواجس الملحّة، ومتكئةً على لغة رفيعة من الصورة والإحالات. خرج بعضها من بيئة أبي سمرا الزاخرة بالأسئلة والتحوّلات (القرية، ثم الضاحية في بيروت). بعضها الآخر صدر عن موقعه الحزبي الشيوعي سابقاً، وخياراته الملتبسة، وماضيه المنسول من تاريخ دولة وحرب. النموذج ينسحب على كامل الجغرافيا بتلوّنات مغايرة. القطرة مؤشر إلى المحيط. الخاص يقود إلى العام، والسينمائي إلى السياسي، وبالعكس. صحيح أنّ الرجل لا يمزح عندما يتعلّق الأمر بنبش المسكوت عنه، وكشف القطب المخفيّة وسط الجروح والقضايا (زعماء الحرب الأهليّة الذين سمّموا الهواء وحكموا البلد، بؤس مخيّمات اللجوء، تفكيك الطوائف، معاينة أضرار حرب تمّوز، الشيوعيّون المهزومون...)، إلا أنّه يفعلها بأسلوب اللا صدمة. يستعمل التحريض الجوّاني على الاستماع وتدوير المخ. يحافظ على مسافة أمان وتقييم، وأحياناً تعاطف، مع الموضوع أو الشخص، بغضّ النظر عن رأيه النقدي تجاهه. مثلاً، لا يبرّئ «حزب الله» من المساهمة في معادلة النظام الطائفي، لكنّه يجد نفسه منجذباً لأفراد منه، ومتفهماً لما يفعلونه. كذلك الحال تجاه رفاق الدرب والأحلام والرؤى.

استعراض أفقي
وعامودي لطوابق سكنيّة مع تعليق المخرج الهادئ


في جديده «مخدومين» (67 د.) الذي نال «جائزة السلام» في البرليناله، وصولاً إلى جائزة أفضل فيلم غير روائي في «مهرجان دبي السينمائي الدولي» الأخير، يفتح ماهر أبي سمرا ملف الخادمات الأجنبيات في لبنان. يلج العالم الشائك، خصوصاً أنّ عددهنّ وصل إلى 200 ألف، في مكان لا يتجاوز مجموع سكانه 5 ملايين نسمة. مفارقة مضحكة في بلد غارق بالديون والكوارث الأزلية. للوهلة الأولى، تبدو نقلةً من السياسي إلى الاجتماعي. التعمّق يظهر خبث أبي سمرا في مقاربة «العقد الاجتماعي اللبناني»، من خلال الباب الخلفي.
الوسيط المناسب هو «زين»، صاحب وكالة استقدام للعمالة من آسيا وأفريقيا. يساعد زبائنه في اختيار الخادمة الملائمة، من ضمن كتالوغ أعدّه لهذا الغرض. تحطّ كاميرا أبي سمرا في مكتب السمسار، لتتحوّل إلى جزء منه. تسجّل طبيعة عمله وأسلوبه. من ناحيته، لا يبخل الرجل في الشرح والإيضاح. يسرد كلّ شيء عن المهنة. يبدأ بالتطور التاريخي، وصولاً إلى طرق جلب العاملات وتكاليفهن، ومروراً بمشاكلهن ووسائل التعامل معهن، أو بالأحرى ضمان استعبادهن بالشكل الأمثل. الخادمة ليست أكثر من سلعة. الكلّ متواطئ، بما في ذلك الشرطة والقوانين الرسميّة. نظام عبوديّة محكم. سلسلة افتراس متينة. الخادمة رهينة عند «أسياد». هؤلاء عبيد بدورهم لنظام استهلاكي برّاق من الخارج، مهترئ من أساسه. ثمة قناعة لبنانية تمجّد المظاهر (وجود خادمة في المنزل، الموضة...) على حساب حاجات أساسية. ادّعاء التعاطف من قبل البعض، ليس أكثر من ردّ فعل آني على انتحار عاملة أو تعرّضها للضرب. عالم مروّع، يُحسَب لماهر أنّه أوّل من يفتح أبواب جحيمه في السينما.
مشكلة الشريط في المعادل البصري. الاستعراض الأفقي والعامودي الثقيل لطوابق سكنيّة (تصوير كلير ماتون)، ترافقاً مع تعليق المخرج الهادئ، لا ينتشل الفيلم من شبح المونوتون (توليف رنا صبّاغة وروبين كورنفيلد). طبعاً، لا بدّ من التنويه بجماليته وقوّة تأثيره. الأدهى أنّ بوح الممثّلة برناديت حديب حول بديهية وجود الخادمة، وتشكيلات الافتتاح، جاءت كمشهيّات مبتورة. خلال مرحلة التمويل، تحدّث ملخص «مخدومين» («كل واحد وخادمتو» كعنوان مبدئي) عن الممثّلة «ريما» التي تلعب دور خادمة في عرض مسرحي، ولديها عاملة سريلانكية في البيت، ما يضعها وجهاً لوجه أمام الواقع. ذكر الخادمة «لاتي» التي تشعر بالاستياء والغضب على الدوام. في الفيلم، حصل تغيير في زاوية الرؤية. لم تظهر أيّ عاملة، لتعزيز معنى التسليع والتهميش. في المقابل، يبقى عدم الاشتغال على المستوى الآخر محلّ تساؤل. نكاد نشهق بحسرة: «ليته تابع هنا». بيد أنّ «مخدومين» بيان قاسٍ عن قضيّة إنسان، وعدالة مفقودة. لكمة في وجه زيف مجتمع وتهتّكه. صاعق كهربائي حتى لا تبقى العيون مغلقة باتساع.