مالك شبل... إسلام التنوير | غيب الموت أول من أمس الباحث والأكاديمي الفرنسي الجزائري، مالك شبل (1953 ـــ 2016) الذي شكلت أعماله منارة للفكر الاسلامي المتنور في الغرب... هو الذي لعب دوراً بارزاً في التصدي لموجات الإسلاموفوبيا التي تحتاج أوروبا، رغم مغالاته في التغريب واتسام بعض أطروحاته بالسذاجة والتسطيح...رغم البيئة الدينية المحافظة، التي نشأ فيها، في مسقط رأسه في سكيكدة (شرق الجزائر)، لم يكن شبل «عالم دين» بالمعنى التقليدي للكلمة. انتمى الى ذلك الجيل الذي خرج من معطف حركات التحرر العربية في الخمسينات والستينات، وولع بالحداثة وفكر الأنوار الغربيين. أمر جعله يتجه نحو دراسة الفلسفة وعلم الاجتماع (جامعة عين الباي ـــ قسنطينية)، ثم التحليل النفسي والأنثروبولوجيا (السوربون).
بعد تخرجه، فتح عيادة للتحليل النفسي في باريس عام 1980. لكن ذلك لم يبعده عن العمل الأكاديمي. في العام ذاته، شرع في إعداد أطروحة دكتوراه في انثروبولوجيا الأديان بعنوان «الجسد في الاسلام» (1984)، وكانت بمثابة بوابته الى «علم الإسلاميات»، وفق التقليد الفرنسي، الذي أسّس له رواد «الاستشراق الجديد» (جاك بيرك، مكسيم رودنسون، محمد أركون...)، والقائم على دراسة ونقد التراث والتاريخ الإسلاميين بأدوات العلوم الانسانية الحديثة.
في مرحلة أولى، انصبت أعمال شبل على طرق المسكوت عنه في التاريخ الإسلامي. لكن بعد المنعطف التراجيدي الذي شكلته هجمات 11 أيلول 2001، وموجات الإسلاموفوبيا التي أفرزها بروز الحركات الجهادية المتطرفة في الغرب، انبرى للمرافعة دفاعاً عن المسلمين في الغرب وفكر التنوير الاسلامي.
في مرحلة البدايات التي امتدت حتى منتصف التسعينات، اتسمت أعماله بمقاربة نقدية غلب عليها المنحى التحليلي - النفسي. من «كتاب الغوايات» (1986)، الى «قاموس الرموز الاسلامية» (1995)، مروراً بـ «الجنس والحريم روح السراري ـــ السلوكيات الجنسية المهمشة في المغرب الكبير» (1988)، و«تاريخ الختان منذ نشأته حتى اليوم» (1992)، و«المتخيل العربي – الإسلامي» (1993)، حملت كتاباته نبرة نضالية منتصرة لقيم التحديث والتحرر والإصلاح.
كان شبل آنذاك باحثاً شاباً منخرطاً في ديناميكية التحديث المغاربية، متأثراً بشكل خاص بأعمال فاطمة المرنيسي، التي كان يطمح للسير على خطاها. لكن ذلك الانشغال بالتحديث سرعان ما تلاشى، لتدخل أعماله في مرحلة تيه طويلة، لن يفيق منها الا بعد صدمة 11 أيلول 2001.
وقعت أعماله تدريجاً في فخ النجاح التجاري وبريق الشهرة الزائفة في فرنسا. بعد النجاح الكبير الذي حققه عمله المرجعي «موسوعة الحب في الإسلام» (1995)، انساق نحو تيمات أقلّ اشكالية سعى من خلالها إلى دغدغة المخيلة الاستشراقية الغربية: «ألف ليلة وليلة من منظور التحليل النفسي» (1996)، «عن الرغبة» (2000)، «أسماء الحب المئة» (2001)، «الرعية في الاسلام» (2002).
بعد صدمة 11 أيلول، استعادت أعمال شبل عمقها الأكاديمي والتيمات الاشكالية التي طبعت بداياته: «الاسلام وحرية القرار» (2003)، «بيان من أجل اسلام الأنوار» (2004)، «الاسلام والعقل: صراع الأفكار» (2005)، وصولاً الى عمله/ الوصية «تغيير الاسلام: قاموس الإصلاحيين في الإسلام منذ نشأته الى اليوم» (2013).
سعى للتصدي لموجات الإسلاموفوبيا في الغرب

خلال هذه النقلة الثالثة في مساره وأعماله، سعى للإسهام في مواجهة الفكر المتطرّف، من الداخل، عبر اعادة احياء التراث العقلاني الإسلامي، أملاً في مصالحة الاسلام بالحداثة الغربية. بالرغم من الرواج الذي لقيته أعماله في أوروبا، إلا أنّ أغلبها اتسم بالمغالاة في التغريب. مثلاً، كان يبشّر بأنّ احتكاك الجاليات الاسلامية المقيمة في أوروبا بالحداثة الغربية، سيفضي الى انبثاق «عقلانية جديدة» ستنطلق من الغرب لتؤسس لـ «اسلام الأنوار» الذي سيقضي على الظلامية في العالم الاسلامي. بعد عقدين من الزمن، نكتشف أن «الإسلام المقيم في الغرب» لم يفرز الحداثة المشتهاة، بل صار يصدّر «الدواعش» الى الوطن الاسلامي الأم!
أُعيب أيضاً على اطروحات شبل، بخصوص «إسلام الأنوار »، اتسامها بالكثير من «السذاجة التنظيرية». بخلاف غالبية أقرانه من العقلانيين العرب (أركون، الجابري، ناصر أبو زيد) الذين كانوا ينادون بالعلمانية، اقترح شبل مواجهة الاصولية المتطرفة بإنشاء «مرجعية دينية معتدلة تكون بمثابة رديف إسلامي ـ سني للبابوية»، مغفلاً أنّ الفكر التكفيري الجهادي خرج من معطف «حكومات ودول الاعتدال السني»، التي راهن عليها لإنشاء هذه «البابوية الاسلامية»!
الى جانب تلك الأعمال ذات المنحى الأكاديمي، سعى للتصدي لموجات الإسلاموفوبيا في الغرب بأعمال موجهة إلى الجمهور الواسع. حرص على أن يقدّم من خلالها صورة مغايرة وأكثر إيجابية عن الاسلام والمسلمين. ولم تختلف أعماله المتأخرة، في هذا الخصوص، كثيراً عن تلك التي أصدرها في مرحلته الإستشراقية. لكنها لم تعد تهدف الى دغدغة وتكريس يقينيات المخيلة الغربية عن «سحر الشرق البعيد وغرائبه»، بل أصبح الغرض خلخلة صورة الاسلام المتطرف التي احتاجت الغرب بعد بروز الإرهاب الجهادي.
الى جانب الاعمال ذات المنحى البيداغوجي («القرآن مروياً للأطفال» – 2006، «القرآن للمبتدئين» – 2008، «حِكَم إسلامية» – 2009)، عاد شبل على خطى بداياته، لطرق الجوانب المسكوت عنها في التراث الاسلامي («أنطولوجيا الخمر والسّكر»، «الكاماسوترا العربي»، «الإيروسية العربية»).
لكن هذه الاعمال تخلت عن المقاربة التحليلية – النفسية وعن النبرة النقدية التي اتسمت بها بداياته، لحساب نظرة انبهارية بالتراث الاسلامي، انصبت في إبراز وتثمين كل ما هو مغاير وخارج عن المألوف في ذلك التراث للمفاخرة به أمام القرّاء الغربي، أملاً في كسر الصورة النمطية التي ترسخت لديه عن الاسلام والمسلمين.
الملفت أنّه بالاضافة الى غزارة إنتاجه (خلّف أكثر من 30 كتاباً وأربعة قواميس موسوعية...)، كانت لدى شبل قدرة مدهشة على القفز برشاقة بين الاعمال التجارية سهلة الرواج وبين المؤلفات البحثية الشاقة، آخرها مشروع ضخم أنجزه عام 2009 ضم ترجمة جديدة للقرآن باللغة الفرنسية وقاموساً موسوعياً للقرآن.