تعبّر بغصة في أكثر من مقابلة عن ندمها لأنّها قالت لمحمد عبد الوهاب «سيبني أفكر شوية»، بعدما عرض عليها تسجيل أغنياته القديمة الأولى بصوتها، مطالبةً إياه بألحانٍ خاصة، فما كان منه إلا أن فسخ العقد إلى الأبد في زمنٍ كان العمل فيه مع «موسيقار الأجيال» من أول درجات سلم الشهرة والانطلاق للفنان المبتدئ. تجسد قصة وداد (1931 ــــ 2009) مع محمد عبد الوهاب مدى استيلاء الأخير على معاقل الفن في تلك الحقبة، وتكشف عن طبعه القاسي تجاه كل من أراد أن يكوّن شخصيته المستقلة. نرى بكل شفافية كيف كانت للموسيقى الطربية الكلاسيكية سوقها وعلاقاتها، وليس فقط مواهبها. لعل قوة شخصية وداد آنذاك قد حرمتها الكثير من الفرص لاحقاً، وعزلتها عن بعض «أبواب النجاح»، إذ اشتهرت بـ «عدم شهرتها» على قدر ما تستحق، رغم صوتها الرقيق وأدائها القوي، وخياراتها الجيدة في كلمات وألحان أغانيها التي ضاع الكثير منها في طي النسيان. فالكل يتفق على أنّ صاحبة «صبحتو ما رد» لم تأخذ حقها كما أخذت أغنيتها «بتندم» مجدها، هي التي في رصيدها ما يقارب ستة آلاف أغنية مبعثرة في تاريخ لم يشأ بأقداره أن يأتي بمن يوثق ويؤرشف تلك الأعمال. من جهةٍ أخرى، لعلها كانت من المجحفين بحق موهبتها، لا سيما في ما يتعلق برفضها الكثير من العروض الأخرى مثل أدوار سينمائية متعددة وتفويتها عرض العمل مع الملحن المصري بليغ حمدي. ولدت بهية عواد في تونس عام 1931 خلال رحلة والديها الفنية إلى العاصمة التونسية. نشأت ضمن عائلية فنية بامتياز، أحاطتها بالموسيقى، فأمها هي المطربة الإسكندرانيّة صالحة المصريّة، ووالدها الفنان الحلبي فرج عوّاد، الذي ترأس بعوده التخت الموسيقي للمطربة المصرية منيرة المهدية (1885-1965)، المرأة الأولى التي اعتلت مسرحاً، وأطلقت أسطوانة موسيقية في العالم العربي. تعاطى والداها الموسيقى في مختلف أنحاء العالم العربي، فكانت تتنقل وتصقل موهبتها بين حلب وبغداد والقاهرة، إلى أن استقرت العائلة في بيروت حيث دخلت بهية عواد الإذاعة الوطنية اللبنانية رغم صغر سنها. وكانت كما كل المطربين، تغنّي في بثٍ مباشر من أعمال السنباطي، وليلى مراد، وفايزة أحمد وغيرهم، فأطلق عليها مدير الإذاعة آنذاك فؤاد قاسم اسم «بيبي».
تعدد الملحنون والهوية واحدة، صوتٌ متمكن يعبّر بتجدّد وصدق عن مشاعر أنثى حقيقية

لم تبلغ العشرين، إلا وكانت قد أصبحت تتلقى عروضاً في السينما المصرية، ما أثار غضب الوالد وقمعه لها وحرمانها من فرصٍ في التمثيل. تزوجت لتنتقل من تقوقع أبٍ إلى غيرةٍ مفرطة لزوجٍ كان قد وعدها بدعمها في مسيرتها الموسيقية. استرجعت حريتها من عازف القانون محمد عبده صالح، بمساعدة أم كلثوم، إذ كان صالح عازفاً في فرقتها، لتدخل وداد مرةً أخرى مؤسسة الزواج مع الشاعر اللبناني عبد الجليل وهبي الذي اشتهرت باسم عائلته حتى بعد طلاقها منه، إلى أن اختار لها الأخوان رحباني وتوفيق الباشا اسم «وداد» الذي سحبته فيروز من القرعة باقتراحهم آنذاك... وهي التي كانت قد شاركت في اختيار اسم فيروز حين أطلقه عليها حليم الرومي. خاضت وداد لاحقاً تجربة الزواج للمرة الأخيرة وتلك كانت الأغنى، فكان زوجها الثالث توفيق الباشا (1924-2005) الذي أنتج لها غنائية «إبن زيدون» ولحن «لفتة نظر»، و«لي حبيبٌ» وبعض الموشحات. كما جدد لها «بصارة براجة» للسيد درويش وموشح «لما بدا يتثنى» الذي نسمع فيه تجارب توفيق الباشا في التوزيع الموسيقي الأوركسترالي الذي كان ما زال نادراً آنذاك، بحيث يلغي دور الارتجال والتأويل الموسيقي ليضيف المساوقة الموسيقية (الهارموني) في سياق أوركسترالي كثيف. ومن الباشا، أنجبت وداد ريما ورندة وعازف البيانو عبد الرحمن الباشا.
لا شك في أن زيجاتها التي جمعتها بموسيقيين ذائعي الصيت آنذاك، لم تشكّل لها الرصيد الذي أنشأته مع سامي الصيداوي، صاحب الفن الفطري، إذ لم يكن يدرك أسماء المقامات التي كان يلحن منها أغانيه. كتب الصيداوي ولحن لها أكثر أغانيها شهرةً، إذ جمعتهما صداقة مميزة استوحيا منها أجمل الأغاني والكلمات التي كانت تعبر عن الحب الخام كما يحدث في الواقع. أعطاها ما يشبه مزاجية ورقة في صوتها، لينطق بمشاعرٍ متقلبة لعشيقة حزينة تتحدى حبها وتهدد محبوبها بتعجرف لتتراجع بعدها، وتقع في ضعف أحاسيسها فتقترب أغنية «بتندم» من الواقع بحيث نكاد نراها في كل علاقة. وكان الصيداوي استوحاها من خلافٍ بين وداد وصديقه توفيق الباشا الذي كان زوجها آنذاك، وألبسها لحناً ملأ صداه عالمنا العربي، إلى أن تكرر الكوبليه فيه في مذهب أغنية «دبك دبك دبيكي» للموسيقار ملحم بركات.
كما تعامل الصديقان لإنتاج دور «يا حبيبي العين ضياء»، فكان من نظم سامي الصيداوي وألحان توفيق الباشا، وهنا نسمع أداءً تقليدياً لمطربة متمكنة تبرز معالم زمن النهضة في الموسيقى الشرقية لنستشعر خبرتها العريقة في ما تبقى من تلك المدرسة.
وفي أغنية «صبحتو ما رد»، يتحدث الصيداوي بلسان امرأة، تتفكر في غموض الحب وتناقضاته، وتكشف عن معاناتها في مواجهة اختلاف الرجل عنها، واستغرابها لطبعه وعدم قدرتها على الوثوق به. أما في تجربتها مع زكي ناصيف، فانتقت الكثير من ألحانه، لعل أجملها «طول هالحلو»، و«في وردة بين الوردات» التي لم تأخذ ما استحقت بالمقارنة مع أعماله الأخرى. ومن حسن غندور، غنت «ألف وردة ووردة» التي اقتربت من ألحان عبد الوهاب، فنتخيل فيها ما كان سيولد لو أنها حصلت على العقد مع الموسيقار.
تعدد الملحنون والهوية واحدة، صوتٌ متمكن ومخزونٌ طربي مخضرم، يعبّر بتجدّد وصدق عن مشاعر أنثى حقيقية. في صباح يوم الجمعة ٢٠ شباط (فبراير) ٢٠٠٩، صمت نشيج وداد التي لم تخف في أعوامها الأخيرة حسرتها على ما لم تستطع تحقيقه. لعل الزمن بعد رحيلها يقف لبرهةٍ عند بعض أعمالها ويعتذر عما تجاهله خلال رحلة الطرب الأصيل.

* أمسية «بتندم»: شانتال بيطار (غناء)، فرج حنا (بزق)، سماح أبي المنى (أكورديون)، عماد حشيشو (تشيللو)، أحمد الخطيب (إيقاع)، هشام جابر (تقديم) ـــ 19:00 مساء اليوم ــــ «أوديتوريوم الحريري» (حرم «جامعة البلمند») ـ الدعوة عامة