كانت نبرة واثقة، تلك التي قرأ بها بيرنار بيفو رئيس لجنة جائزة «غونكور» أمس إسم الروائية المغربية ليلى سليماني (1981) لتصبح رابع امرأة تنال الجائزة الفرنسية الرفيعة. لقد عكست تلك النبرة حالة الاجماع التي كانت عليها اللجنة عند الاختيار وقد أتى ذلك على نحو متوافق مع القبول اللافت، نقدياً وجماهيراً، للعمل الفائز الذي تصدر قائمة المبيعات منذ لحظة صدوره في مفتتح الموسم الأدبي ليتفوق في النهاية على الروايات الثلاث التي أتت في القامة النهائية القصيرة: «بلد صغير» (غراسيه) لغاييل فاييه، «الآخر الذي عشقناه» (غاليمار) لكاترين كوسي، «آكلو لحوم البشر» (سوي) لريجي جوفري. أعمال أظهرت سمتها الانسانية الغالبة نزوع لجنة الحكم لترجيح كفة النصوص البعيدة عن التنظيرات السياسية التي كانت غالبة في دورة العام الفائت.لقد قرأت ليلى سليماني (35 عاماً) عن جريمة اقترفتها مربيّة أميركية في عام 2012 قتلت طفلين كانا في رعايتها. دخلت هذه الكاتبة المغربية في غابة من أسئلة الخوف والشك، التي كادت أن تخنقها. كانت وقتها قد صارت أمّاً لصبي في شهره السادس، وعليها أن تتركه في يد مربيّة لتعود إلى عملها التي تصرف منه على حياتها. «لو لم أكتب «أغنية رقيقة»، كُنت سأصبح مجنونة» قالت سليماني وقد نجحت في السيطرة على مخاوفها. قبل هذا، كانت قد أنجزت روايتها الأولى «في حديقة الغول» (غاليمار-2014) على الطريقة نفسها. كانت تتابع ما يجري لدومينيك شتروس كان، مدير صندوق البنك الدولي الذي ترك منصبه بعد فضيحة التحرش الجنسي بعاملة فندق كان يقيم فيه، مما دفعه لترك منصبه. لقد رأت سليماني القصة من زاوية أخرى، بعين إمرأة افترضت أن الفاعل سيدة مُصابة بالإدمان الجنسي لتخرج روايتها الأولى على هذه الصورة.
لم تذهب سليماني خلف إغراءات وسهولة الغرف من بئر السيرة الذاتية لتدوين روايتها الأولى. لقد وضعت حياتها الشخصية وراء ظهرها، ولم تفعل مثل غالبية من المغاربة الشباب الذين يكتبون بالفرنسية، ولا يقدرون على ترك حياتهم، فيجعلونها مادة لإنجاز روايتهم الاولى. مع ذلك، لا تتردد هذه الصحافية السابقة في مجلة «جون افريك» عن ردّ الفضل لأبيها الذي منحها الشجاعة لتكتب ما تريد دون خوف. وعلى الرغم من ذلك، فقد اضطرت لجعل بطلة «في حديقة الغول» سيدة غربية لا مغربية، إذ «ليس من المقبول أن نكتب عن إمراة عربية مُصابة بالإدمان الجنسي، هذا مرض يصيب الغربيات، العربية لا تملك غرائز أو رغبات، كما يعتقدون». من هنا كان من الصعب تقبل القارئ لشخصية عربية لتأخذ مهمة بطولة الرواية.
«لقد ماتت الصغيرة». هكذا تُفتتح الرواية على نحو مباشر يكاد يبدو متطابقاً مع افتتاحية «الغريب» لألبير كامو (البارحة ماتت أمي) من باب الرغبة في شدّ الانتباه منذ العبارة الأولى. تقديم النهاية على التفاصيل المؤدية إليها. مُغامرة كبرى لن يكون من السهل خوضها دون اعتبارات واحتمالات الخسارة ، ضياع قارئ لن يكون مجبراً على إكمال القراءة ما دام قد عرف نهاية الحكاية منذ بدايتها. لكن ليلى سليماني ما قررت فعل هذا إلا وقد امتلكت قدرتها على إجبار قارئها على البقاء حتى السطر الأخير من أغنتيها الهادئة.
لقد ماتت الصغيرة ميلا إذاً وإلى جوارها آدم الشقيق الأكبر، في حين يعثرون على جسد لويزا المربيّة في مكان آخر من البيت، وقد حاولت الانتحار بعدما أنهت جريمتها. تأتي المرحلة التالية، مع تعريفنا بوالدة الضحيتين، ميريام، المرأة المشتغلة في مهنة المحاماة وقد تخصصت في الدفاع عن جرائم القتل. لم تكن تعلم أن الدور سيأتي عليها لتكون ضحية. توقفت لفترة عن العمل حين قررت التفرغ والاهتمام بتربية نجليها، في حين كان زوجها، بطبعية الحال متفرغاً تماماً لأشغاله، كما يفعل كل الرجال في الحياة العائلية، إنه دورهم ولا شيء غيره.
عودة ميريام إلى شغلها، سيفرض الاحتياج لمربيّة سيكون على عاتقها تربية الولدين وتقمّص دور الأم البديلة. ستتقدّم طلبات ترشيح للوظيفة التي سُيعلن عنها وسيقع الاختيار على لويز، الخمسينية الأرملة التي تعاني من ضائقة مالية خانقة. لكنها بسلوك صارم وقدرات على جذب الانتباه تنجح في الدخول إلى قلب العائلة وتصير جزءاً منها مع كسب محبة الولدين ورضاهما عنها.
هكذا تبدو خامة الرواية الأساسية في حين تأتي الأسئلة لاحقاً وتضعها ليلى سليماني من زاوية رؤية امتلكتها عبر خبرة اكتسبتها من تجربة أمومة مرت بها وكانت مضطرة خلالها لأن تترك طفلها بين يدي مربيّة لتذهب هيّ متفرغة لأشغالها في الحياة. مواجهة الطرق المناسبة لفعل ملائمة بين دور المرأة العاملة وواجبها كأم. سيكون لهذه الحالة أن تؤدي لتبعات لا يكون من المتاح الانتباه إليها في الوقت المناسب. وعبر هذا الخلل تأتي الكارثة لتحلّ على الضحايا المُفترضين.
لا تغفل سليماني الفوارق الاجتماعية التي لا تضعها عائلات الطبقات الراقية في تفكيرها عند تعاملها مع المربيّات القادمات من الطبقات الدنيا وفي دواخلهن أزمات نفسية ومالية لا أول لها ولا آخر. كمّية الاهانات التي تنزل عليهن دون انتباه، ولو حتى بدت قليلة وتحدث من وقت إلى آخر. مع الوقت وتراكماته، تحدث لحظة الانفجار. كما أن الكثير من المربيّات يتركن أولادهن في مواجهة مصائر مختلفة ويذهبن للانشغال بتربية أولاد الآخرين. لا تبدو الحياة نزيهة في حقهن من هذه الناحية، إضافة إلى ملاحظة الفارق الماديّ بين الحياتين، الحياة القامة هنا بين يديّ المربيّة، والحياة البائسة التي تحيط بأهلها وأطفالها في البيت الذي تركته يواجه مصيره منفرداً وهي في حالة انشغالها بجمع المال اللازم للجميع هناك.
وفي الغالب حين تأتي لحظة الانفجار المرتقبة، فإنها تأتي لتصيب الطرف الأضعف، أي الأطفال في هذه الحالة.