«قصة قصيرة... الغرفة رقم 11:لسببٍ ما ابتسامة على وجهي،
مع القليل من الألم،
أنا سعيد حزين
لست أعلم ماذا سوف أحلم
وما سيكون عليه الغد إن أتى».
بهذا المطلع، يقدم لنا التشكيلي اللبناني الأردني رفيق مجذوب (1971) بيانه الفني في معرضه الجديد المقام حالياً في Art on 56th في الجميزة. «كان رفيق مجذوب قد وصل الى مرحلة من عدم القدرة ولا حتى الرغبة في الرسم، قبل أن يدخل الى المستشفى (لإعادة التأهيل من الكحول). كان متعباً إلى درجة أنني طلبت منه مساهمة صغيرة بحجم 30 × 30 سنتم، لكنه رفض، كان مرهقاً وتعِباً! هذا الإنسان الشفاف والمتواضع في آن، أخبرني حاسماً أنه لم يعد يريد أن يرسم! ذهب تاركاً كل شيء، وقال لي «كبَّيت كل شي!» قلت، ربما سيغير رأيه، لكنه فعلاً استغنى عن كل شيء». انطلاقاً من هذه الشهادة لمديرة الغاليري نُهى محرَّم وإعلان مجذوب اعتزاله الرسم، تبدأ قصة معرضه الجديد «الغرفة 11».
ما هي إذاً هذه الأوراق المنتشرة على جدران غرف الغاليري الكثيرة؟ بدءاً بـ «القلم المكسور» المؤرّخ في 16 كانون الأول (ديسمبر) 2015، ثم تتوالى التواريخ مشيرة إلى «حالاتٍ» في الغرفة 11؟ وكيف تم المعرض إذاً؟ وما هي تلك البورتريهات الذاتية المربعَّة التي ترافق التخطيطات المؤرشِفة للأيام؟ ما هو هذا الصندوق الخشبي بجوانبه/ لوحاته الأربع الذي يفوق الـ150 سنتمتراً طولاً، والأشبه ببرجٍ مراقِبٍ أو شاهدٍ على تاريخ شخصي فني فردي خاص؟ كأنه نصب تذكاري لمعارك طويلة مع ذات الفنان رفيق مجذوب، ولها. هنا توضح محرّم: «هذه المرة الثانية التي يعرض فيها رفيق مجذوب في Art on 56th ونحن ندخل على أبواب السنة الخامسة لتأسيس الغاليري. في المعرض الأول «أمطري عليَّ»، كنا نشعر أكثر بالأزمة التي يريد أن يعبّر عنها وهي أزمة الإدمان على الكحول، ثم التطهّر من السموم. أما اليوم، فيحكي عن زياته الأخيرة للمستشفى وإعادة التأهيل بطريقة مختلفة، وتحديداً في الغرفة 11 التي أمضى فيها غالبية وقته».
هذه القضية الجدلية لعلاقة التشكيليين بالكحول قديمة قدم الزمن، أدمنتها كل أجيال الرسامين من موديغلياني إلى تولوز لوتريك وفان غوغ وغوغان وإدوارد مونخ وفرانسيس بايكون، حتى صارت لصيقة بصفة الرسام في ضرب الأمثال. لكنَّ أحداً من هؤلاء لم يختبر إعادة التأهيل، فماذا عن مجذوب؟ ما الذي جعله يرسم من جديد، وبهذه الغزارة وهذا الشغف الواضح للتعبير بالخط الأسود والكلمة كجزء منه، ثم بالأبيض كأساس وفوقه الباستيل الملوّن؟
يشرح مجذوب لـ «الأخبار»: «في الأسبوع الأول من إقامتي في المستشفى (لإعادة التأهيل)، لم تكن لديّ رغبة في شيء ولا في الرسم إطلاقاً. لكن لاحقاً، أحسست برغبة قوية في الرسم، كنت أريد الأوراق من جديد... فطلبتها». وتكمل محرّم الصورة: «رغم منعه من التحدث عبر الهاتف، بقي البريد الإلكتروني الوسيلة المتاحة للتواصل معه في تلك الفترة من إعادة التأهيل. أخبرني أنه طلب من صديق مرَّ لزيارته أوراقاً وأقلاماً. أعتقد أن الأمل قد عاد فعلياً مع هذا الطلب. بعدما وصل إلى مرحلة التخلي شبه الكلي والاعتزال عن الرسم، وجد رفيق نفسه في حالة تعافٍ تدريجي، وعاد للتعبير عبر القلم والأوراق، وهو دليل على بدء راحته. والنتيجة كانت هذه الأعمال الفنية!».
معرض غنيّ يضم بورتريهات ذاتية، ودفتر رسمه الشخصي، وصندوقاً خشبياً بلوحات تعبيرية أربع

رُسم المعرض كله إذاً في عمان في الأردن، أثناء وبعد إعادة التأهيل في «الغرفة 11»، بين كانون الأول (ديسمبر) 2015 وكانون الثاني (يناير) 2016. كان مجذوب يرسم يومياً على دفتره، حتى امتلأ الأخير وانتهى. عندها، اتصل بالغاليري وجرت الأمور بسهولة بحكم التعاون السابق بين الطرفين. لم تتردد نهى محرّم في تحضير المعرض عندما علمت بوجود الدفتر واللوحات الورقية. تقول: «كانت نتيجة نوعية. في أعمال رفيق التي رسمها في الغرفة 11 أو حتى في الجزء الثاني أيضاً أي بعد عودته إلى منزله، يمكن أن نتلمّس بوضوح الطاقة الإيجابية الكامنة في الأعمال، وهي باعتقادي انطلاقة رفيق الجديدة».
من جهته، يقول مجذوب لنا: «عموماً، أعمالي تأتي هكذا، هي حالات. يعني يمكن ألا أرسم طيلة العام، إلا أنَّ دفاتري موضوع آخر، هي رفيقتي أرسم عليها كل الأيام وطيلة السنة. منذ سنة ونصف تقريباً، أقمت معرض Rain on Me. كان «حالة» بذاته أيضاً. لم أرسم منذ ذلك الوقت، ولم تكن لديّ الرغبة في الرسم والتلوين. الأوراق المنشورة على الحائط في المعرض اليوم، وبشكل متسلسل موصول من اليسار إلى اليمين، هي فعلياً دفتري الذي رافقني ورسمت عليه بشكل يومي، تقريباً رسمة في اليوم، غالباً كنت أنجزها في الصباح. هي مذكرات عن نفسي في تلك الغرفة من المستشفى. الغرفة 11، حيث كان القلم والدفتر فعلياً رفيقيّ الدائمين». أوراقُ دفتر امتلأت برسمات للذات، بورتريهات، أو كلمات، أو حتى تخطيطات لما هو محيط به، محافظاً على بعض الرموز التي كنا نجدها غالباً في لوحاته كالعصفور. بعضها رسم بالأسود، وبعضها بالأزرق الغامق والأسود، وبعضها أقرب إلى البُنَّي، على خلفية الدفتر السُّكَّري اللون.
غالباً ما يحدّد مجذوب مسبقاً الطريقة التي سيعرض فيها أعماله. هذا المعرض الغنيّ الذي يضم إلى البورتريهات الذاتية، دفتر رسم رفيق مجذوب الشخصي، يظهر أيضاً صندوقاً خشبياً بلوحات تعبيرية أربع (بورتريهات ذاتية للفنان) من مراحل رفيق مجذوب الفنية المختلفة. كلها مرسومة بالريشة على خشب الصندوق الطويل. يعلّق مجذوب: «نصحني صديق أن أضعه في تلك الغرفة ليكتمل المشهد، وقد عملت بالنصيحة وكان محقاً. وضعناه في الغرفة التي ألصقت فيها دفتري بكامل صفحاته على الحائط بشكل متتالٍ. هذه الطريقة حددتها مسبقاً رغم أنني لم أكن أعرف المقاييس بدقة. أردت للدفتر أن يكون جزءاً جوهرياً في المعرض، هو الأهم من بين كل الأعمال الأخرى، والصندوق هذا «هلكني». هو موقّع بتواريخ مختلفة عن كل جانب. لقد تغير مع الوقت وكنت أرسم عليه منذ 1996 تقريباً. لقد تنقل معي في كل بيروت حيث كنت أنقل سكني. ثم عرضته في «متحف سرسق»، لكنني رسمت فوق اللوحة مراراً وهي اليوم غير ما كانت عليه سابقاً».
هي مجموعة بورتريهات على أوراق بنية أو خشبية اللون، تؤرشف أيضاً للفترة ذاتها. ينشر عليها رفيق مجذوب خيوطه السوداء الرفيعة كأنها خيوط حياكة دقيقة، راسماً من جديد صورته كما يراها من داخله، حالاته: «هنا عملت على تأسيس الأوراق بالأبيض. كنت أريد هذا الأبيض الذي يظهر كأنه معتق قليلاً. كنت أريد للوحات أن تظهر كأنها مرسومة منذ زمن أو كأنني لوَّنت فوق الأعمال القديمة. والأعمال التي دخل فيها اللون أتت فعلاً لأنني حينها اشتقت للون. هي «هبّات» تأتي في أوقات، فتدفعني لأصنع لوحات ملونة، مثل تلك التي يضمها المعرض الآن. كانت نتاج هذه الحالة وبشكل عفوي وتلقائي. أنا لا أقرر مسبقاً، ولا أختار الألوان بدقة. في الواقع، يكون أمامي الباستيل، فأبدأ مثلاً بالأخضر، وسرعان ما أنتقل إلى البنفسجي وأعود إلى الخط الأسود، هي لحظات! اتخذ القرار حينها في اللحظة، وتنتهي حينها. ربما أحتاج في بعض الأحيان إلى 24 ساعة للتأكد من ثم أعود إليها. لكن غالباً ما ينتهي العمل فوراً. لست أبداً ممن يعملون على لوحة أو رسمة لأسابيع أو أشهر، إطلاقاً. عملي مبني على الحالة الظرفية الآنية، لا تخطيط سريعاً ولا تأليف مسبقاً، وأحياناً لا أكون على دراية بما أريد أن أرسم».
تدخل الكتابة على لوحة مجذوب كجزء محيّك من النسيج والخط نفسيهما، فتكمل بنيان اللوحة التأليفي العفوي، رغم رفض الفنان اعتبارها رسائل موجهة واضحة: «أنا أكتب ما يأتي إلى رأسي، لا أكتبها بجودة أدبية، لست فيلسوفاً ولا أتمنى أن أعطي مواعظ لأحج. لا دخل لي في الكتابة، ولست ممن يؤلفون لوحاتهم ويرسمونها بدقة. لا لا أنا لست رساماً، أنا فقط أحاول أن أعبّر... أن أُخرج ما في داخلي!»

* «الغرفة 11»: حتى 5 تشرين الثاني (نوفمبر) ــ غاليري Art on 56th (الجميزة) ـ للاستعلام: 01/570331