أثارت دعوة فيلم من إخراج مخرجة فلسطينية من أراضي الـ 1948 من قِبَل مهرجان سينمائي لبناني ضجة كبيرة في لبنان وفلسطين والعالم العربي، بالأساس لأن الفيلم كان قد أُدرج في مهرجانات دولية تحت اسم «إسرائيل» كالدولة المنتجة، بموافقة المخرجة. وبعد منع عرض الفيلم في لبنان، توالت المقالات التي عبّرت عن طيف من الآراء، برزت فيها إشكالية التوفيق بين مراعاة الوضع الخاص لفلسطينيي 48 من جهة، ومعايير المقاطعة ومناهضة التطبيع المتعددة، المنتهجة في فلسطين وفي دول عربية شقيقة، منها لبنان، من جهة أخرى.كما يأتي الجدل حول هذا الفيلم في سياق جدل أوسع مستمر حول مشاركة فنانين/ ات فلسطينيين/ات من أراضي عام 1948 في إنتاجات فنية إسرائيلية (تعرض في العالم تحت اسم إسرائيل) أو في مهرجانات فنية إسرائيلية ذات طابع عالمي (كـ «مهرجان حيفا السينمائي الدولي» و«مهرجان العود») وأثر ذلك على نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقنا غير القابلة للتصرف.
وفي الكثير من الأحيان، تثار قضية أثر تلك المشاركات في الأنشطة الإسرائيلية ــ التي تُوَظّف من قبل الحكومة في حملات البروباغاندا عالمياً ــ على حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) كشكل رئيس من أشكال المقاومة الشعبية لنظام الاحتلال والاستعمار- الاستيطاني والفصل العنصري (الأبارتهايد) الإسرائيلي وكأهم شكل من أشكال التضامن العالمي مع نضالنا من أجل التحرر والعودة وتقرير المصير.
وبعد نقاش المواقف والآراء المتعددة بشكل معمّق وهادئ في «الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل»، وبعد مراجعة كل معايير المقاطعة ومناهضة التطبيع ذات الصلة، وبالذات المعايير التي تراعي خصوصية فلسطينيي أراضي عام 1948 والتي تميّز بين العلاقة الطوعية والقسريّة، وبعد التشاور مع بعض ناشطي المقاطعة في أراضي 48 وبعض شركائنا في لبنان، نلخص موقفنا في النقاط التالية:

(1) جزء لا يتجزأ من شعبنا

إن الشعب الفلسطيني واحد لا يقبل التجزئة، رغم فصول التهجير القسري والشرذمة التي سبّبها الاستعمار الاستيطاني لوطننا، بالذات خلال نكبة 1948 ونكسة 1967. إن الفلسطينيين الذين صمدوا في أراضي 48 إبان النكبة، والذين اضطروا لحمل الجنسية الإسرائيلية من أجل ضمان بقائهم في وطنهم، وتعرضوا للحكم العسكري والاقتلاع والتهميش ونظام فصل عنصري (أبارتهايد) مُمَأسَس ومُقَنّن، هم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة ونضاله من أجل تقرير مصيره وإحقاق حقوقه الوطنية والتاريخية.

(2) احترام معايير المقاطعة ومبدأ حساسية السياق

كمبدأ عام، نحترم ونقدر بعمق المواقف والمبادئ المناهضة للتطبيع التي تتبناها الاتحادات والنقابات والمؤسسات الأكاديمية والثقافية والمهنية والفنية في الوطن العربي، بغض النظر عن أي اختلافات بين معايير المقاطعة لديها والمعايير التي يتبناها، مضطراً، المجتمع الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال والأبارتهايد الإسرائيلي. كما نرى ضرورة التواصل بين حملة المقاطعة الفلسطينية وهذه الاتحادات والنقابات لتنسيق المواقف تجاه مقاطعة إسرائيل ومعايير تطبيقها.
هذا يعني أن عرض فيلم فلسطيني في لبنان، سواء من قِبَل مخرجة في أراضي 67 أو 48 أو الشتات، لا بد أن يخضع بالضرورة لمعايير المقاطعة ومناهضة التطبيع المتبعة في المجتمع اللبناني. لا يمكننا أن نفرض معاييرنا على الأشقاء العرب، بالطبع، احتراماً لهم ولاستقلاليتهم، ولقناعتنا الراسخة في حركة المقاطعة BDS بمبدأ الحساسية للسياق، أي بأن «أهل مكّة أدرى بشعابها».
في ضوء معايير المقاطعة التي تتبناها «الحملة اللبنانية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل» (تأسست هذا العام وتحظى بتأييد واسع في الأوساط الثقافية والأكاديمية اللبنانية)، وهي شبيهة بمعايير المقاطعة في بلدان عربية أخرى، لا يمكن قبول عرض أي فيلم أو منتج ثقافي آخر مُموّل إسرائيلياً. بغض النظر كيف تختار المخرجة (أو تقبل بشرط) تعريف هوية فيلمها، وبغض النظر عن محتوى الفيلم، فالفيلم في نهايته يعرض أسماء الجهات التي أنتجته وموّلته، وتظهر إسرائيل بشكل واضح كممول، وبشكل غير مباشر كدولة «ديمقراطية» ترعى الفنون، وكل هذا يتعارض مع معايير المقاطعة ومناهضة التطبيع في لبنان وغيرها من البلدان.
نوجه كل التحية لشركائنا في لبنان ومصر والكويت والأردن والمغرب وتونس وغيرها من الدول العربية لنضالهم الدؤوب دعماً لحقوقنا، بالذات من خلال مواجهة التطبيع مع إسرائيل ومقاطعتها ومقاطعة من يتواطأ مع نظامها الاستعماري والعنصري.

(3) احترام وتفهّم خصوصية فلسطينيي 48 دون إضعاف المقاطعة العربية والعالمية

تنصّ معايير المقاطعة ومناهضة التطبيع الخاصة بفلسطينيي أراضي عام 1948 على التالي: «لا يمكن في الوقت الحالي مقاطعة مؤسسات الدولة التي تقدم خدمات لدافعي الضرائب (صحة، تعليم، خدمات اجتماعية، خدمات ثقافية...). إن هذه الخدمات تعتبر حقاً لفلسطينيي 48، كدافعي ضرائب، كما كانت بالنسبة للسود في جنوب أفريقيا تحت الأبارتهايد... كما في تجارب الهند وجنوب أفريقيا وغيرها، لا يوجد تناقض بين دعوة المجتمع المدني الدولي لمقاطعة إسرائيل ومؤسساتها المتواطئة وعدم قدرة مواطني 48 على مقاطعتها، أو مقاطعتها بنفس الدرجة، بأنفسهم في ظل نظام الأبارتهايد القائم».
في المقابل، تنص المعايير على ضرورة «عدم إضعاف أو تقويض حملة المقاطعة فلسطينياً وعربياً ودولياً»، مما يتطلب، بالحد الأدنى «عدم تمثيل إسرائيل أو مؤسساتها الخاضعة للمقاطعة في المحافل الإقليمية والدولية»، أي عدم توفير أوراق التوت للتغطية على جرائم إسرائيل ومؤسساتها المتواطئة. إن من يـ/تقبل بشرط تقديم إنتاجه/ا الفني تحت اسم إسرائيل، أي بتمثيل إسرائيل، يجب أن يـ/تتوقّع أن إنتاجه قد يتعرض للمقاطعة محلياً (في أراضي عام 67، بما فيها القدس المحتلة) وعربياً وعالمياً.

(4) التمويل الحكومي في أراضي الـ48: حق وشرّ لا بد من الاستغناء التدريجي عنه

تنص معايير 48 على حق المواطنين الفلسطينيين في أراضي 48 بالحصول على الخدمات التي تقدمها الدولة، بما في ذلك دعم وتمويل الإنتاجات الثقافية، ولا يعد ذلك تطبيعاً، إلا إذا كان التمويل مشروطاً بشكل واضح، كما هو الحال في السنوات الأخيرة. فقد بدأت السلطات الإسرائيلية تتبع سياسة قمعية بامتياز، وفي المجال الثقافي تحديداً، فباتت تفرض الولاء السياسي للصهيونية ولإسرائيل كشرط للحصول على التمويل. وهذا التمويل المشروط مرفوض من معظم المثقفين والفنانين في أراضي الـ48، بل إن بعضهم يخوض ضدّه نضالات مستمرة بشتى الوسائل.
نحيي كل من تصدّى لهذا الجنوح نحو الفاشية في المؤسسة الإسرائيلية ولكل الشروط المفروضة منها على شعبنا من أجل التمتع بحقوقه.
حتى لو كان، جدلاً، التمويل الإسرائيلي للإنتاج الثقافي الفلسطيني في أراضي 48 غير مشروط، فسيندرج تحت مُسمّى «العلاقة القسرية» الواردة في معايير 48،أي أنه شرّ لا بد منه طالما لا توجد بدائل. لذا، ندعو مثقفي وفناني وناشطي شعبنا في أراضي 48 للسعي نحو التحرّر التدريجي والمدروس والمخطّط من الدعم الإسرائيلي في المجال الثقافي كأولوية. وفي نفس الوقت، ولدعم هذا التحرّر، نكرّر دعوتنا لتكثيف جهود الأطر الفلسطينية والعربية والدولية لرفع منسوب التمويل للإنتاج الثقافي لفلسطينيي 48، وإفساح إمكانيات أوسع للتواصل مع إنتاجهم الثقافي دون وساطة إسرائيلية.
www.pacbi.org