كما في «بالنسبة لبكرا، شو؟» (1978) كذلك في «فيلم أميركي طويل» (1980). وضع زياد الرحباني الموسيقي والشاعر ثقله لتزيين عمله المسرحي وتدعيمه بالنغمة والشعر. بعد سنتين من العمل الأوّل، عاد زياد في مسرحيته السياسية المباشرة إلى الهيكل الموسيقي ذاته تقريباً، مطعماً المشاهد بالأغاني المندرجة إلى حدٍ كبير في السياق الدرامي، كما بالموسيقى التصويرية الصامتة التي تضع المتلقّي في جو الأحداث المرتقبة أو الجارية على المسرح.في العموم، وكونه مؤلفاً موسيقياً وصانع أغنية من الطراز الأول، لم يخلُ مسرح زياد الرحباني، بين «سهرية» (1973) و«لولا فسحة الأمل» (1994) من الموسيقى التصويرية أبداً، وكذلك من الأغنيات (باستثناء «شي فاشل»/ 1983 التي شكّل الجانب الغنائي فيها مادّة للسخرية من اجترار الفلكلور في المسرح التقليدي). لكن هناك وحدة حال واضحة بين «بالنسبة لبكرا، شو؟» و«فيلم أميركي طويل» لناحية وظيفة الأغنية والموسيقى في مسرحه، وهذا ما نجد نواته، بالمناسبة، في «نزل السرور» (1974). حتى إنّ هناك شبه تطابق في النَفَس العام بين محطتَين غنائيتَين في كلٍ من المسرحيتَين — الجارتَين زمنياً — ونقصد «إسمع يا رضا» مقابل «قوم فوت نام» و«أغنية البوسطة» مقابل «راجعة بإذن الله» (وهي، كما تعرفون، أغنية بوسطة أيضاً، لكن في رحلةٍ من الضاحية الجنوبية إلى جسر القاضي بدلاً من حملايا إلى تنورين). إذاً، عندما وجد القالب العام، بقي لزياد الرحباني أن يضع شعراً مناسباً لحبكة هذه المسرحية أو تلك، بالإضافة إلى الموسيقى التي تراوح بين التصويرية غير المباشرة (المقدّمات الموسيقية والفواصل في الحالتَين) والمباشرة («مشهد الجريمة» في «بالنسبة لبكرا شو» مقابل Electro-shock في «فيلم أميركي طويل»).
وإذا كانت البوسا- نوفا أكثر حضوراً في «بالنسبة…»، ففي «فيلم أميركي…»، مال زياد إلى السول/ فانك والجاز الحديث في ما خصّ الموسيقى الصامتة. ولهذا السبب تحديداً، يسجِّل الـ «فاندر رودز» (بيانو كهربائي معروف باسم ماركته الشهيرة) حضوراً قوياً في العمل الثاني.
تحوي «فيلم أميركي طويل» ثلاث أغنيات هي: «قوم فوت نام» و«راجعة بإذن الله» و«يا زمان الطائفية». أما في الشريط الموسيقي الخاص بالمسرحية، الذي صدر لاحقاً، فنجد أيضاً شبه أغنية، هي تحفة شرقية تصلح لأن تعتَمَد في معاهد الموسيقى الشرقية للتحليل والنقاش وهي «ده فيلم أميركي طويل». ورغم كلماتها المختصرة حصراً بعنوانها فقط لا غير، إلّا أنها تحمل رسالة سياسية عميقة وواضحة تنقلها العناصر الموسيقية التي تكوّنها: طول الجملة الموسيقية التي لا نجد بطولها إلّا عند باخ ربّما (للدلالة على طول الفيلم الأميركي) والمزاج الشرقي الطربي (الذي يمثّل التخدير الذي نعانيه أمام واقعنا السياسي). كذلك، هي نوع من محاكاة لأغنيات أم كلثوم وأتت زمنياً بُعَيد اتفاقية كامب دايفد. بالتالي، إنه بُعدٌ إضافي في هذه الرسالة السياسية الموفّقة فوق ما يمكن أن نطلبه من أغنية شرقية من أربع كلمات! تؤدي المطربة منى مرعشلي الكلمات القليلة في هذه الأغنية. أما الأغنيات الثلاث الأخرى، فيؤديها الراحل جوزيف صقر بطاقات صوته التي لا تحسب أي حساب لجملة لحنية صعبة، وبنبرته التي لا يمكن أن نجد أفضل منها لإيصال السخرية السوداء بدون مبالغات فارغة. إنه الصوت المناسب في المكان المناسب، وقد تركَنا في الوقت غير المناسب.
نمر في ما يلي، باختصار، على أعمال لا تنتظرون منّا شرحاً لها. هي خرجت من مسرح زياد ودخلت القلوب سريعاً واستقرت فيها طويلاً، وهذا كافٍ كي نعتبر أنها باتت من تراثنا الكلاسيكي. أولاً، «قوم فوت نام». إنها أغنية طربية شعبية، صحيح، لكنها محاطة بـ «ملاكَي» سوينغ بطيء في مطلعها وفي ختامها يشهد لقاءً بين البزُق (الحاضر جداً في أغاني المسرحية عموماً) والباص: الأول يقسِّم، والثاني «يتمشّى» قربه فارشاً له أرضية السوينغ. في هذه الأغنية حصة للوتريات، في جملٍ غير مألوفة في توزيع (بين مزدوجين) هذا النوع من الأغاني، تماماً كما في «راجعة بإذن الله» التي يضاف إليها إحدى أجمل صفحات النحاسيات التي كتبها زياد، أكان في اللازمة الموسيقية أو في الفواصل التي تشعل الجوّ الكردي/ البلقاني/ الشرقي لهذا العمل. الأغنية الثالثة في «فيلم أميركي طويل» هي واحدة من أطول الأغاني في فئتها عند زياد الرحباني، لناحية عدد الغصون (كوبليه). إنها «يا زمان الطائفية» الطربية الشرقية التي تُعَدّ أقرب إلى المانيفستو منها إلى الأغنية السياسية. فهي، من هذه الناحية، تشبه «أغنية العرس» في «لولا فسحة الأمل»، بينما تقع الأغنيتان، لناحية الدينامية، على طرفَي نقيض.
كتب زياد لـ «فيلم أميركي طويل» مقدّمة موسيقية واحدة وفواصل عدّة، بعضها ينطلق على شكل تنويعات من المقدّمة وبعضها مستقل. ينتقل من السول والفانك إلى الجاز الحديث ومن الكلاسيكي الشعبي الغربي إلى التصويري التجريبي الذي يحاول فيه نقل ما يحدث في دماغ بشري يتعرض للصدمات الكهربائية.