هو مشروع ثقافي ضخم عمره ربما أكثر من مئة عام. انتظر تحولات الأزمنة، وتعاقب الاحتلالات ليتكرس فضاءً من حديد وزجاج وإسمنت على مدرج مطار سوفياتي مهجور، من إبداع معماريّة لبنانية جريئة. هذه الأخيرة أعادت إلينا ألق أجمل لحظات عمارة الحداثة أيام العظماء لو - كوربوزييه، وأوسكار نيماير، إبان صعودها في زمن قيام الدول الوطنيّة، وتحدت بخطوطها الصريحة الهائلة التباسات ما بعد حداثة زها حديد، وجيلها المعتمد على اللعب بالمتناقضات. «المتحف الوطني الاستوني» الذي افتتح للعامة في الأول من الشهر الحالي في تارتو، ثاني أكبر مدن أستونيا الجمهورية البلطيقية الصغيرة، وعاصمتها الثقافية، بعد عشر سنوات من الشروع في التنفيذ، يعتبر بمثابة إعلان استقلال جديد للجمهورية، وإعادة تأسيس متأخر نوعاً ما للهوية القومية للشعب الأستوني بعد سنوات الاحتلال الطويلة بين الألمان والسوفيات التي انتهت بسقوط الاتحاد السوفياتي في ١٩٩١، وكادت أن تمسح من ذاكرة الشعب الأستوني أيام السيادة القصيرة التي دامت لأقل من عقدين (انتهت عام ١٩٣٨).
كان مشروع المتحف قد طرح في مسابقة معمارية دوليّة عام ٢٠٠٥، وفازت به مجموعة من المعماريين الشباب تقودهم اللبنانية لينا غطمة. أستونيا التي أعلنت استقلالها عام ١٩٩١، وانطلقت في مسار جديد مليء بالثقة والاعتزاز (أخذها في ٢٠٠٤ إلى عضوية الاتحاد الأوروبي)، كانت بحاجة ماسة إلى إعادة صياغة هويتها القوميّة، فاستدعيت فكرة متحف جديد يكون مبناه جزءاً لا يتجزأ من هذه الهوية. أستونيا لديها متحفها الصغير العريق في بناية عتيقة من القرن الثامن عشر، لكن صياغة أساطير التكوين تحتاج دوماً إلى صروح هائلة كي تعلق في الأذهان عبر الزمان، فكان مشروع المتحف الجديد. أرادوه فضاء يسرد عراقة البلاد وتاريخها - المؤلم في بعض مقاطعه - لكنه في الوقت عينه، يظهر كيف يتطلع الأستونيون إلى المستقبل بثقة وتفاؤل.
فازت أخيراً بمشروع تصميم «المتحف الوطني الاستوني»

شاركت في المسابقة حينها عشرات المكاتب الكبرى، لكن الحل الذي قدّمته لينا ورفاقها، هو الذي استرعى الانتباه، وانتهى إلى الفوز بالمشروع. تحدت لينا اختيار الموقع المحدد من قبل الهيئة الأستونية القائمة على مشروع المتحف، واقترحت استخدام مدرج الطائرات السوفياتي المهجور المجاور بيتاً للمتحف. كانت فكرة شديدة الأصالة، لكنها قدّمت حلاً عبقرياً لإسكان فكرة مبنى كأنه قطعة حديد وزجاج هائلة تتصاعد من أرض التاريخ شاقة طريقها إلى عنان السماء، محتضنة في الوقت عينه فضاء متداخلاً مع محيطه المفتوح على الأفق يمكن أن يستوعب أنشطة شديدة التنوع تخدم عمليّة نسج الهوية القومية الأستونية من جديد.
مساحة المتحف ٣٤ ألف متر مربع. هو يعد أضخم منشأة ثقافية على الإطلاق في كل جمهوريات البلطيق، مستضيفاً ١٤٠ ألفاً من المقتنيات التي تعكس التاريخ الثقافي للشعب الأستوني من العصور الحجرّية إلى اليوم، مروراً بالتقاليد والطقوس والرموز الشعبيّة للسكان الأصليين للبلاد، وهو من دون شك أضخم مباني أستونيا وأكثرها كلفة.
يمتد مبنى المتحف الضخم ٣٥٠ متراً كمكعب زجاجي هائل يرتفع سقفه بميل تدريجي كأنه يحلّق من مدرج المطار العسكري القديم، معبراً بذلك عن «تاريخ البلاد الناهض من تحت الاحتلال والتغييب». واجهات المبنى زيِّنت بنموذج تجريدي لزهرة القنطريون عنبري Cornflower (الزهرة الرسميّة لأستونيا) يمنح زجاج الواجهة الأمامية إحساساً مكثفاً تخترقه بوابة ضخمة تعلو لـ ١٤ متراً. المبنى يحتضن فضاءات عدة تضم مساحات عرض ممتدة، وقاعة مؤتمرات، وغرفاً للمحاضرات، والتدريس ومكاتب إدارية، ومخازن للقطع التراثية والفنية ومقاهي، بينما صممت صناديق العرض من خليط من زجاج شفاف ومعتم.
أما المعمارية لينا غطمة، فهي مهندسة لبنانية شابة بنت سمعة دوليّة من خلال مشاريع تتسم بالجرأة والإبداع، وتحدي منطق المكان مع حساسيّة فائقة في تحليل العوامل التي قد تؤثر على التشكيل الكليّ للمبنى، ويعتبرها كثيرون بمثابة نجمة من طراز العراقيّة الرّاحلة زها حديد. تخرجت لينا من «الجامعة الأميركية في بيروت»، وبعدها من الكليّة التخصصية للعمارة في باريس حيث تدّرس الآن. قبل تأسيس مكتبها الفرنسي مع شريكيها الإيطالي دون داريل والياباني تايسوشي تاين، عملت غطمة في باريس ولندن وبيروت في مكاتب رائدة، وتعاونت مع المعماري المعروف جان نوفيل. إلى جانب الفوز المبهر في المسابقة المعمارية الدولية لتصميم المتحف الوطني الأستوني، فإن لينا حازت جوائز من وزارة الثقافة الفرنسيّة (٢٠٠٧ - ٢٠٠٨) والأكاديمية الفرنسّية للعمارة (٢٠١٦)، وفاز مشروعها للمتحف الأستوني بجائزة الـ «غراند بري أفيكس» المرموقة؟ كما اعتبرتها «مجلة المعماريين الأوروبيين» في ٢٠١٠ واحدة من عشرة معماريين جدد يمتلكون «رؤية مستقبلية في عقد جديد».
لعل أحدث تجارب لينا الجريئة هو تصميمها برج الحدائق المعلقّة في ماسينا في فرنسا. يأتي هذا التصميم ضمن برنامج بلدية المدينة الطموح لإنعاش البيئة المدينية من خلال تنفيذ مجموعة مشاريع خلاقة. مشروع لينا برج يشكّل ما يماثل نظاماً بيئياً مغلقاً يحقق إمكان خلق دورة نباتية كاملة ومستدامة داخل حدائق المبنى وشرفاته لأغراض البحث المتقدم. تسيطر على سقف البرج حديقة خضروات ويتم الانتقال بين طبقاته من خلال ممرات صاعدة، بينما توفر فضاءاته مساحات للبحث والتدريس في علوم البيئة والدورات الزراعيّة، إضافة إلى مساكن وصالات للترفيه ومطعم ومعرض على مستوى الشارع لزوم التفاعل مع أهل الحي.