لايؤمن ضياء العزاوي كثيراً بفكرة "الفن العراقي" بمعناها المتداول، أو في الأقل عبر الفهم القاصر الذي يستسيغه فنانون عراقيون كثر، على الرغم من سيادة وقوة هذا الفن في المنطقة العربية وريادته الواضحة فيها منذ وقت مبكر ترسخ فيه العزاوي نفسه بعد فترة كأحد أبرز ممثليه وأكثرهم تأثيراً على الإطلاق، هذه نظرة لا تقلل من أهمية هذا الفن، إنما تتحدد موقفاً عنده يبتعد عن كثرة من التقييمات الخاطئة أو المغالية وسوء الفهم الفادح الذي أحاط بهذه التجربة الطويلة، أو ربما كما يرى، مرة أخرى، أن لا أصل مؤسساً وواضحاً لمفهوم اللوحة الحديثة في التراث العربي والإسلامي الذي جللته الروح الكتابية والمخطوطة بالدرجة الأساس، فاللوحة بنظره منتوج أوروبي بمعناها التقني والفكري.لكن العزاوي الذي كرس جلّ حياته وبشكل متواصل للفن التشكيلي، استطاع أن يستوعب كل تأثيرات مكانه الأول فيه، وأن يعي قوة هذه التأثيرات الغنية التي ميزت بلده الأم، هو الذي تمعن في قيمة تراثها وأدرك أهمية آثارها القديمة (تخرج كما معروف من قسم الآثار بجامعة بغداد 1963)، معززاً بذلك قدرة فائقة لديه على التماهي مع ما حوله فيما بعد بوعي ميّزه بشكل لافت عن سواه، من دون أن ينقطع عن تأمل مصائر هذه البلاد وغرائبية أحوالها منذ مغادرته بغداد العام 1976 نهائياً في هجرة يسميها نفياً قسرياً مستمراً على الرغم من استقراره وتألقه الدائم في منفاه اللندني، مستفيداً من كل ما يحيطه بقوة ذلك الشغف الذي يتحول حينها المكان عنده مهما كان إلى معنى إنساني عام وقيمة مزدوجة مضافة وليس سوى ذلك، ولهذا السبب أيضاً يتعدد عنده مفهوم "الفن العراقي" أو تتسامى لديه فكرته، متبرّماً من معناها الاستعراضي السائد بكونها فكرة متاحة للجدل الفضفاض أو للمساومة، من دون شرطها الإنساني الشامل المحدد بمعاييره الفنية الملهمة ليس إلا، ربما لأن ضياء العزاوي تخلص إلى حد ما وبذكاء من الكثير من المحمولات الأيديولوجية المكانية والعقائد المكبلة التي أرهقت غيره من مثقفي بلاده، وهذا لم يمنعه بالطبع من تصور الوقائع المحلية الحادة ومراقبتها والتعبير عن ردود فعله إزائها، إنما بمزاجه ووفق رؤيته هو، ولم يعقه ذلك أيضاً من أن يحقق توازناً مدهشاً بين أخيلته وأهدافه الفنية الجمالية وبين تلك اللوعة الإنسانية المضمرة، غير عابئ بمحنة المكان أو قلقه، أو محاولة تأطير هوية تزويقية لفنه، كما التبس الأمر على سواه.
ولذا من غير المناسب في كل الأحوال تأطير تجربة العزاوي الكبيرة والمتحولة، في حيز أسلوبي معين أو قراءتها عبر رسائل جمالية وموضوعية بذاتها، من دون الانكشاف على كامل هذه التجربة التي استوعبت طيلة أكثر من أربعين عاماً جملة من التحولات الأسلوبية واختمرت فيها الكثير من المفاهيم والأحكام والرؤى، محتفظاً في كل ذلك بتوقيعه الخاص والمحسوس الذي انصهرت عبره وتجلت بالذات سلسلة من أعماله التي قدمها في معارض السنوات الأخيرة كمعيار لما وصل إليه أخيراً، مكرساً نفسه رساماً بارعاً مختلفاً ومؤثثاً خبيراً لسطوح نتاجاته المتنوعة، التي تضفي عليها ألوانه الحية الحادة والقوية في العادة، نوعاً من متعة لامحدودة ينقلها بسهولة لمتلقيه، كأن لعباً رائقاً يرتجيه معه ويسعى إليه ويحققه، كما لم يحققه أي فنان عربي قبله، في الأقل..
فوق ذلك لا فاصل يقطع في روحيته، بين ذلك الذي حفرت عشتارياته المتوزعة في دفاتر كثيرة عُرف بها يوماً، بما تركته من وقع في الذاكرة العربية، يوم كان مهجوساً بالانغمار في الرموز الشعبية العراقية عقدي السبعينيات والثمانينيات الفائتة، مثلاً، وبين هذا الفنان الذي صار يجمع هذه الخبرة العميقة في أعمال تتجاوز كل حيز إلى آفاق إنسانية أوسع، أمام متلق كوني مثلما يضعها اليوم، قدرة تولد من خيال فنان تمرس على الابتكار والتجديد.
* شاعر وناقد عراقي من بغداد