لا تنبئنا، لوحات ضياء العزاوي، إلا بمزيد من المتعة البصرية، وبجوانب تتضح فيها الأشكال المتعددة، كأنها متن من الإضاءة السيميائية الدالة على حمولاتها المعرفية، ومرجعياتها الاجتماعية، والميثولوجية. وهو بهذا الاتجاه، يحقق ما تصبو إليه رؤيته مع واقع الفن ونزعته الشكلية. وبما أنّه من الداعين للتحول والخلق الفني المتعلق بتجانس الأبعاد الفنية وارتباطها بخواص الوجود، فالأمر يدفعنا لتقصي آثار تجربته وكشف تلك الحقول الدلالية التي تميزت بها لوحاته منذ الستينيات حتى لحظة إقامة معرضه الاستعادي، فما الذي سيوفره معرضه للمتلقي؟ لا بد من التذكير بأنّ الجيل الستيني العراقي خاض غمار التجريب، وقدم منجزاً معرفياً حيال تحريك الفن العراقي والعربي، واستند لمقولات الحداثة والتجريب، وكان صاحبنا العزاوي ممن دعا لذلك انطلاقاً من تواجده الفعال وسط الجماعات الفنية في العراق، أكان في المرسم الحر العائد للفنان حافظ الدروبي، أو عبر «جماعة الرؤية الجديدة» مع نخب فنية عرفت بتاريخها العريق. منذ تلك المرحلة، عمل على تكريس أسلوب واسع النطاق جعل متلقيه غارقاً في التأمل والاستفسار عن وحدات الأشكال وحالات الشعور التي تثير حساسيتها الألوان المتضادة.ضياء العزاوي يشترط أن تكون حواسنا رهينة قيمه الجمالية؛ لهذا يفعّل من مستويات السيمياء وإن غرقت لوحاته بنزعة زخرفية، فالمهم عنده أن ينتج الشكل سواء التجريدي أو المشخص تكاملاً لما يمليه التنظيم الذهني، إذ يتوفر ذلك من خلال الطبقات اللونية مع الخطوط والحرفيات، وتحول لاحقاً ليكون مغزى دلالياً يحمل من شفرات الأشكال مقابل التعامل مع المدلول، وهو ما يسمى بالتكامل المادي والروحي وسط سطوحه الفنية.
يلجأ العزاوي إلى فرض مزيد من التقارب في التجاور اللوني، ويتخذ منه قاعدة أساسية ليشيد تطبيقاته البصرية. ويلعب تنوع الوحدات في هذا المضمار دوراً فاعلاً في التأثير جراء حمولاتها السيميائية، فتتولد هنا ما يسميه السيميائيون بالدلالة التطابقية ويتبين منها الجانب التركيبي والتحويلي، بينما يقتضي الأمر الآخر في لوحات أنشئت في سنوات لاحقة، أن نعير أهمية لنظام الدلالة الإيحائية، حيث المركب المعقد يحتاج هنا لفك الشفرات والطلاسم، ولا بد من التعامل مع اللوحة بدقة عالية تجعل من انتقائية الفكرة وتطبيقها صورياً محاولة جادة لخلق مناخ يناسب توجهات ما بعد الحداثة وفهم العزاوي لخطابها التنويري، فأصبحت اللوحات متقلبة في مفاهيمها في حين أجزاؤها ذات صلة وثيقة بمرجعياتها وارتباطها بالعلاقات الداخلية مع تعدد الوحدات. كل هذا التكوين التقني والمهاراتي، يستند لاستنارة ذهنية تريد التجديد في خطاب العمل الفني مع نزعة نفسية تميل لتوظيف التراث والميثولوجيا والطقوس وفهم تاريخ الأسطورة، بما يجعل محيط اللوحة المعرفي غارقاً في هذه التفاصيل. إننا إزاء لوحة بحمولات ثقافية وعلى هذا التصور البنائي وفهمنا لأعماله، نجد علامات اللوحة تغوينا في مرجعيتها الدلالية ومخاطبتها لنا وفقاً لسلطتها وشروط وظيفتها، وهذا نتاج مخيلة تعيد ربط العلامات المتناثرة في السطح التصويري لتنشئ نظاماً علاماتياً بشكل جديد.
من يعي أهمية العزاوي وتأثيره في الساحة الفنية العراقية والعربية، يعرف أن منجزه الفني كفيل بإنتاج حصيلة جمالية تتحقق في الاهتمام بالأصول والتأثير والمعيارية، ولا نأتي بجديد بالقول إن هذا المعرض يعيد لنا التذكير بفنان عالمي، قرر أن يلج عالم الفن لاستدراج الجميع من أجل تقييم لوحاته، فينتزع عقائدنا ضمن مفاهيم تجديد الخطاب الصوري ووظيفته الآن. المعرض يكشف تاريخ شخصية أملت علينا أن نعي اتجاهها ونزعتها باتجاه الموروث والتراث الإسلامي والمادي، فهو لا يستعرض لوحات غارقة في المهاراتية، إنما يبدي تاريخاً من الأفكار المتنوعة وينير أضواءه ليرينا خصائص أعماله ومدى مخيلته، وكل مقارنة بين الماضي والحاضر ستقف في وقت ومكان واحد تفضي لإعلاء الشعور والفخر بما أنجزه عبر خمسين عاماً مجدداً وباعثاً لحيوية الفن وإحيائه، ومتخذاً من الرسم دافعاً حياً لإعلاء روح الإنسان وأهدافه التنويرية.

* ناقد عراقي