في معرضه الجديد «الدكّانة»، ينسف بطرس المعري (1968) كل التوقعّات المسبقة عن علاقة اللوحة بالمتلقي، مراهناً على البساطة المخادعة في إيصال شحنته البصرية إلى الآخر. ذلك أنّ مفردة «الدكانة» وحدها، تطيح المهابة في اقتحام عوالم غامضة وملغّزة. نحن إزاء مكان بسيط للفرجة لا يحتاج إلى درج كهربائي لاكتشاف أقسامه، ولا إلى الوقوف في الدور أمام «الكاشير» لدفع ثمن البضاعة. ثمانية رفوف خشبية عتيقة تكشف عن بضاعة «محليّة الصنع». سنجد فوق هذه الرفوف نحو 50 عملاً بقياسات مختلفة، وعناوين متناقضة مثل كتب عتيقة، وعلب الليل، ونشر غسيل، وقصص قصيرة، وحب، وبائع الذرة، و«شامنا فرجة»، وكروشيه. هكذا ستتناسل سرديات هذا التشكيلي السوري بتقنيات مختلفة باستخدامه الكولاج، والاكريليك والجرائد المطويّة، في مزيج من الكاريكاتور والكوميكس، تبعاً لما تستدعيه انشغالته، سواء لجهة الحنين إلى أمكنة وذكريات باتت قصية، أم لجهة التهكم اللاذع من طبائع بشر غارقين في خدر أعراف قديمة تثقل تطلعاتهم إلى كينونة معاصرة.
50 عملاً مصنوعاً من الكولاج، والاكريليك والجرائد المطويّة، في مزيج من الكاريكاتور والكوميكس
ليست علاقة بطرس المعري طارئة في التحريض على أهمية الفنون الشعبية في الفضاء التشكيلي، فقد سبق أن عمل على استحضار عنترة وعبلة، من عتبة أعلى مما قدمه الرسّام الشعبي أبو صبحي التيناوي، بمعنى أنه تجاوز النبرة الفلكلورية نحو قيم بصرية أكثر تجذّراً في المخيال العام، بإضافة جرعة نقديّة تضع شخوصه في مقام آخر. هذا ما نجده في شخصية الحكواتي وكتبه العتيقة وأراكيل روّاد المقاهي الشعبية، مروراً بمعرضه «3 سنوات على الفايسبوك» (2015). وإذا بالرسم يدخل الفضاء الافتراضي بوصفه مدوّنة يومية توثّق أحوال الحرب والحنين والغيبوبة في تمجيد الماضي، وتحطيم القشرة الصلبة للحكايات الشعبية، وتعرية شخوصها من قدسيتها لدى المتلقّي. لكنه في «الدكانة» يلقي حبلاً أطول وجرعة أكبر في اصطياد رائحة الأمكنة القديمة، كأن بعد المسافة ما بين هامبورغ الألمانية مكان إقامته الحالية، وأزقة دمشق وحواريها وحكاياتها، يشعل الحنين مضاعفاً نحو ما بات بعيداً ومنسيّاً ومهملاً، من موقع السخرية في المقام الأول. وهو بذلك يقترب من مناخات محمد الماغوط في تشريح أحوال الجسد المريض بتاريخه وأوهامه وانكساراته، كاشفاً عن علل الكراهية والزيف والمهابة الكاذبة، بقصد تعزيز الألفة بين الأشقاء وترميم الفجوة التي أفرزتها الحرب الدائرة في البلاد منذ سنوات. وهو إذ يستعيد توابل الزمن السعيد، إنما يرغب في إزاحة مشهد العنف الدموي بمشهديات مغايرة تكسر رتابة مشهد القتل، وتعزّز عناصر فرجة أخرى تتكئ على عناصر تشكيلية بطابع محلّي أصيل، ولكن في المنطقة الفاصلة ما بين الاحتفاء بالأعراف القديمة من جهة، وهتك هشاشتها وركاكتها من جهةٍ أخرى، لتأصيل وعي جديد ينهل من مكونات محليّة ويعيد صوغها في فهم معاصر ينهض على رافعة تحريضية لا تتوانى عن استدعاء المفردة الشوارعية حيناً، والنقد اللاذع للنزعات الماضوية طوراً. يفكك بنية السرديات المحلية ويجذبها إلى ضفةٍ أخرى: «الحرب تسير ونحنا عم نعوّي». وهو بذلك يغامر بنخبويته لمصلحة بلاغة الشارع، وبسطات الأرصفة، وذاكرة الحكواتي بخطوط حيوية وتعليقات ساخرة تعرّي العمل الفني من رصانته، ليتحوّل إلى غرض يومي يمكن جلبه من «الدكّانة» ببساطة وسهولة وغبطة «لتكن إذن هذه الدكّانة كراسنا الشخصي، وهذه الأعمال هي الصفحات التي دوّنا عليها يومياتنا وهواجسنا، منفعلين بالأحداث السياسية حيناً، وهاربين منها إلى استرجاع صور وحكايات قديمة تنفصل عن الواقع المعاش حيناً آخر» وفقاً لما يقوله في تقديم معرضه.
فكرة التدوين إذاً، تصب في عملية توثيق الذاكرة من وجهة نظر شعبية أولاً، وتالياً فإنّها تأريخ مشاغب من دون تشذيب أو زخرفة «كي لا ننسى كيف كان السيران في الغوطة وكيف هو طريق المطار. كي نتذكر البائع المتجول ينادي على بضاعته في سوق الحميدية، وعربات الحمّالين في سوق الهال، ومحل أحذية الأرمني في حي برج الروس، والعصرونية التي احترقت كما تحترق البلد الآن».
هكذا يمضي صاحب «دفتر إقامة» بعيداً في تخليص العمل التشكيلي من رصانته باستثمار القيم الغرافيكية في فن التصوير، مؤسساً لوحة تزاوج فنون الكتاب المصوّر مع بهجة الذائقة الشعبية، مفصحاً عن حجم التناقضات التي نعيش تحت ثقل وطأتها. لذلك، لم يتردّد في أحد معارضه السابقة بأن يدعو برهان كركوتلي إلى العشاء في منزل نذير نبعة، مثلما يستدعي اليوم بائع الجوارب في سوق الحميدية، و«كيوبيد الدمشقي»، وبائع البطيخ إلى صخب الميديا. لكن المفارقة أنّ محتويات رفوف الدكّانة سوف تستضيفها جدران صالة زجاجية أنيقة في وسط بيروت بما يتناقض مع طموحات «أبو ماتيس» في تصدير اللوحة إلى الشارع العمومي، من دون وسيط.

«الدكّانة»: حتى 16 تشرين الأول (أكتوبر) ــــ «غاليري تجليات» (الصيفي فيلاج ـ بيروت) ـــ للاستعلام: 01/987205