أهلاً بكم في موسم الجوائز الكبيرة في هوليوود. تحلية نهاية العام السينمائي الذي يقفل بأوسكار 2016. جوائز الغولدن غلوب أضاءت الشعلة على أكثر الأفلام شراسةً في المنافسة، منها «كارول» تود هاينز، و«ستيف جوبز» داني بويل، و«البغيضون الثمانية» لكوينتن تارانتينو، و«بقعة ضوء» لتوم مكارثي، و«غرفة» لليني أبراهامسون، و«ماد ماكس: طريق الغضب» لجورج ميلر، والشريط المرتقب «العائد» لأليخاندرو غونزاليس إيناريتو. دراما منحوتة في الثلج، ينتزعها المكسيكي من البارود المشتعل والوحوش الجائعة، ليجلبها على طبق من اللحم النيء. رحلة صاعقة تجعلنا نتساءل في كل لحظة: إيناريتو، كيف فعلت كل هذا؟
منذ «أموريس بيروس» (2000) و«21 غراماً» (2003) «بابل» (2006)، أو ما يسمّى «ثلاثيّة الموت»، أثبت أليخاندرو غ. إيناريتو أنّه قادر على التنوّع وسلخ الجلد. ابن «مكسيكو سيتي» (1963) أجاد تحقيق انعطافات أسلوبية ودرامية في الوقت المناسب. أدرك أنّ الستاتيكو مقتل المخرج. في «بيوتفل» (2010)، انفصل عن كاتبه المفضّل غيليرمو أرياغا، مستعيناً بنيكولاس جياكوبون وأرماندو بو، قبل أن ينضمّ إليهما ألكساندر دينلاريس في «بيردمان» (2014). هذه التحفة حققت أربعة أوسكارات، منها أفضل فيلم وأفضل إخراج. هكذا، صار إيناريتو من توابل بلاده الأسطورية، عابراً بسينماها إلى اليابسة الحلم. انضمّ إلى ألفونسو كواران، وغوليرمو ديل تورو في سجل الذهب للسينما المكسيكية الجديدة (الأميغوز الثلاثة). هو أول مكسيكي ينال ترشيحاً لأوسكار أفضل مخرج، وأول مكسيكي المولد يفوز بجائزة أفضل مخرج في كان عن «بابل»، ليفعلها بعده كارلوس ريغاداس عن «بعد الظلمات نور» (2012).
«فيتزجيرالد» يعزو كل أفعاله إلى إرادة الرب كما فعل بوش الاب عندما تحدّث عن «الحرب الصليبيّة»

في جديده The Revenant (الترجمة الأكثر دقّةً: العائد من الموت)، يذهب أليخاندرو بعيداً في الخيال والمعايير والهوس بالكمال. إنّه «شطحة» من الجنون، يعيد الاعتبار إلى «جنر» الويسترن وأنماط الدرجة الثانية B-Movie عموماً. إيناريتو حاضر في السيناريو كالعادة، بالاشتراك مع كاتب أفلام رعب يُدعى مارك ل. سميث، عن رواية بالاسم نفسه لمايكل بانك. نحن في الثلوج الشمالية الغربيّة لأميركا عام 1823. «هيو غلاس» (ليوناردو دي كابريو) صيّاد وتاجر فراء خبير بجغرافيا ولايات وايومينغ ومونتانا ونبراسكا وداكوتا. ينجز عمله مع حملة صيد عسكريّة الطابع يقودها «كابتن أندرو هنري» (دومنهال غليسون)، وتضمّ الشرس «جون فيتزجيرالد» (توم هاردي). ابنه من زوجة هنديّة راحلة «هوك» (فورست غودلك) يرافقه رغم امتعاض معظم رجال الحملة من منبته العرقي. يحذّره «غلاس»: ««إنّهم لا يسمعون صوتك. فقط يرون لون وجهك». الباحثون عن مآرب في هذه الأراضي الشاسعة كثر. أصحاب أميركا الأصليّون (يُعرَفون بالهنود الحمر) يفتّشون عن ابنة زعيم إحدى القبائل. فرنسيّون مرتزقة يتاجرون بكلّ شيء. رحّالون لأسباب مختلفة، لا تخرج عن العنف والصراعات وثقافة المشانق المعلّقة على الأغصان. وأخيراً: المكان. برد يفتك بالعظام. دببة شرهة للدماء. انهيارات ثلجية ونيازك هابطة وشلالات هادرة. الطبيعة شخصية مستقلّة بحدّ ذاتها، تجمع بين القسوة والرحمة، وبين العنف والسكون. شريك تمثيل حقيقي، يرغم الجميع على التفاعل معه، حتى لو خرج عن النص. مخرّب لخطط العمل بسبب تبدّلات الحرارة وذوبان الثلوج، ما اضطرّ إيناريتو إلى مغادرة الجبال الكندية إلى جنوب الأرجنتين. هذه إحدى كوارث فترة التصوير، التي لم تقل قسوةً عن الفيلم نفسه. تأجيل متكرّر بسبب تضارب مواعيد، ثمّ صعوبات إنتاجية بسبب انسحاب إحدى الشركات إثر رحيل مديرها. موزّع الفيلم «فوكس» رفض تعويض المبلغ، فاستغرق إيجاد بديل بعض الوقت. أصرّ إيناريتو على الاكتفاء بالإضاءة الطبيعية، للحصول على أكبر قدر من المناخ الواقعي، مستخدماً كاميرا «آري 65 ملم» الجديدة التي تلتقط بدقّة 6.5K للمرة الأولى في السينما. هكذا، صرف السينماتوغرافي الفلتة إيمانويل لوبيزكي «شيفو» ساعات منهكة على البروفات. المكسيكي الذي كان عين تيرانس ماليك وألفونسو كواران والأخوين كوين وتيم بورتون ومايكل مان وآخرين، لم يمانع استغراق المشهد الواحد أياماً عدة لاقتناص الضوء الصحيح. العمل امتدّ تسعة أشهر (فترة حمل) في برد لا يُحتمَل. الميزانية قفزت من 90 إلى 135 مليون دولار. سرت أقاويل عن شجارات، عزّرها طرد بعض الفنيّين الذين لم يحتملوا «العمل في الجحيم». إيناريتو برّر ذلك بضرورة الحفاظ على أوركسترا متناغمة. دي كابريو وهاردي لم يتفوّها بحرف. الأول أدرك أنّ الداهية المكسيكي قد يجلب له الأوسكار المشتهى منذ ربع قرن، فتحالف معه في مختلف التحديات. الثاني جعل نفسه جندياً عن طيب خاصر. تغلّب على خوفه من الخيول، واعتذر عن «فرقة الانتحار» (2016) لديفيد إير.
بالعودة إلى الحكاية، يتعرّض «غلاس» إلى هجوم أنثى دب بغرض حماية أولادها من بندقيته. يُصاب بشدّة، ليصبح عالةً على الرفاق الخائفين من هجوم جديد للسكّان الأصليين. يتركونه في عهدة «بريدجر» (ويل بولتر) و«فيتزجيرالد»، الذي يقترف أشنع الأفعال ثمّ يدعه للموت. «غلاس» الآن شبه ميت في قبر محفور على عجل. لم يبقَ لديه سوى الانتقام كوقود للحركة وهدف للحياة. هكذا، يبدأ رحلة وجودية ضارية ومحفوفة بالأخطار، ضمن سرد كلاسيكي لتيمة «رجل ضد الطبيعة» Man Against Nature. هو «ربّ الأسرة» المكلوم على المستوى الفردي. ليست أسرةً عاديةً في تلك الحقبة. الزوجة من قبائل «الأعداء» (الهنود الحمر)، والابن بنصف وجه محترق ولون بشرة «مستفز». العائلة حقل اشتغال دائم الحضور في فيلموغرافيا إيناريتو. إشاعات كثيرة تطال ماضي «غلاس» الملتبس. هو «أسطورة جبال» يتماهى مع الطبيعة والجذور، في تأكيد آخر على الامتعاض من زيف العالم واضمحلال أصالته. بمعنى آخر، يحمل الهويّة الأميركية المتلوّنة المتجاوزة للأحقاد كما يشتهيها الصانع المكسيكي. على العكس، يرتدي «فيتزجيرالد» الوجه القبيح لتلك البلاد المليئة بالتناقضات. نشأ على العنف كما فعلت «عصابات نيويورك» لاحقاً. لا حاجة للتبرير لأنّ «المتوحش متوحش». هو عنصري، مختل، هستيري. يحلم بشراء أرض في تكساس، والتبوّل في كل مكان. يعزو كل أفعاله إلى إرادة الرب تماماً كما فعل جورج بوش الابن (ينحدر من تكساس أيضاً)، عندما تحدّث عن «الحرب الصليبيّة» قبل سفك الدماء في العراق. إنّه مفهوم الأمّة الحقيقيّة في وجه الهمجية والبلطجة. التسامح على درب الانتقام الطويل: «قلبي ينزف، ولكن الانتقام في يد الخالق». هكذا، تُبنى «أمّة المهاجرين الرائعة» كما سمّاها إيناريتو في «خطاب النصر» الأوسكاري الأخير. حسناً، ستقع الحرب الأهلية بعد عقود قليلة من هجوم أنثى الدب، لتصمد حكاية «هيو غلاس» الحقيقيّة. لقد قدّمها الأميركي ريتشارد س. سارافيان سابقاً في Man in the Wilderness «رجل في البريّة» (1971)، عن سيناريو لجاك دي ويت.
هذا شريط عن الفقد بشتى الأوجه. فقدان فرد من العائلة. فقدان سن من الفم، أو شعر من الرأس. فقدان الانتماء للحياة نفسها. لذلك، يروى كل شيء «من ذاكرة شبح»، تحوّل له «غلاس» بعد التصاقه بالموت لتلك الدرجة المخيفة. صار مزيجاً من رجل وشبح ووحش وقدّيس وروح. من هنا جاء عنوان The Revenant الغريب بعض الشيء. لجأ إيناريتو إلى الشعرية في أكثر بقاع الأرض قسوةً. الرجل روحيّ بطبعه، اتكاءً على أساس مادي متين. دعونا لا ننسى أنّ عنوان فيلمه «21 غراماً» يعني وزن الروح المفترض حسب تجربة علمية شهيرة.
هذا لا يثني بطله عن النجاة طوال الوقت. في «بيردمان»، مزج «الواقعية الهوليوودية» بـ «الواقعية السحرية»، مستبدلاً «القدرات الخارقة» بـ «الواقعية الخارقة». ها هو يفعلها مجدداً، محوّلاً «البطل الخارق» إلى آخر من لحم ودم وعظام. ينهض من القبر ثمّ يولد مجدداً من بطن حصان. هو الشجرة التي تقسم أنّها ستسقط بفعل العاصفة لدى رؤية الأغصان، إلا أنّ الجذع يبقى ثابتاً ومستقراً. «أريد أن أصبح خالداً... ثمّ أموت». يستوحي أليخاندرو العبارة الشهيرة في «مقطوع النفس» (1960) لغودار. يبجّل السينما التقليدية لتحقيق فيلم من طراز «لورانس العرب» (1962) لدافيد لين في الصناعة (الغابات والثلوج بدلاً من الصحراء والكثبان)، ومن روح تاركوفسكي، وكوروساوا، وإيريش فون ستروهايم وكوبولا وهيرتزوغ وكيمينو وجيلان في تلك «الشعرية الخشنة» والدأب العجيب. يتساءل: «أين الغرابة في انتهاك الكاميرا للأماكن الحقيقيّة، والاستفادة من الضوء الطبيعي؟ هل أكل تفاحة حقيقيّة غريب اليوم؟». هل سيفعلها مجدداً؟ «بالتأكيد لا»، يجيب ضاحكاً: «أنا مجنون، ولكن لستُ غبيّاً. إنّها مرّة في العمر». بعد «المجهود الحربي» و«العدائية» لبلوغ الكمال في كلّ لقطة، يميل أليخاندرو غونزاليس إيناريتو إلى الاسترخاء. على مهل، يحضّر لانتقال أوّل إلى مسلسل تلفزيوني بعنوان The One Percent، مع أسماء مثل إيد هاريس وإيد هيلمس وهيلاري سوانك.
ليوناردو دي كابريو مثال على التكيّف الجسدي والنفسي مع متطلبات الدور. النجم الهوليودي تحمّل البرد، ومدّ لسانه تحت المطر. سخّر إصابته بالانفلونزا لخدمة الشخصية. ابتلع كبد ثور أميركي، رغم أنّه نباتي. درس لغتين أصليتين (باوني وآريكارا)، وتعلّم بعض أساليب الاستشفاء الطبيعي. إيناريتو انضمّ إلى قائمةً من أهمّ المخرجين الذي عمل معهم: سكورسيزي، وسبيلبيرغ، وجايمس كاميرون، وتارانتينو، وداني بويل، وكلينت إيستوود، وسام منديز، ووودي آلان وسواهم. بعد 4 ترشيحات، يبدو تمثال الأوسكار أقرب من أيّ وقت مضى. من العدالة أن يأخذ واحداً إلى المنزل.

The revenant: صالات «غراند سينما» (01/209109)، «أمبير» (1269)، «فوكس» (01/285582)