كما في أفلامه السابقة مثل «خطاب الملك» (2010)، و«البؤساء» (٢٠١٢) الفائزة بجوائز أوسكار، يتميز «الفتاة الدنماركية» للمخرج البريطاني توم هوبر الجديد بالحساسية السينمائية ذاتها التي تعنى بأدق تفاصيل الصورة والحوار، وتشبه مقطوعة موسيقية في إيقاعها الانسيابي المتكامل الذي يعيد نفسه في ذهن المشاهد. يصوّر «الفتاة الدنماركية» سيرة ليلي ألبي (١٨٨٢-١٩٣١) المتحولة الجنسية الشهيرة التي عرفت سابقاً بشخص الرسام إينار ويغنر. كانت ليلي من أوائل الأشخاص المعروفين الذين خضعوا لعملية جراحية لتغيير جنسهم. يشكل الرسام الدنماركي المعروف إينار ويغنر (الممثل إيدي ردماين) وزوجته الرسامة أيضاً غيردا ويغنر (الممثلة أليسيا فيكاندر) ثنائياً متناغماً كما نرى في بداية الفيلم. شغوفان ببعضهما وبفن الرسم باستثناء الإحباط الذي تعانيه غيردا حين لا تجد غاليري تقبل بعرض البورتريهات التي ترسمها. أما إينار المتخصص في رسم المناظر الطبيعية، فهو أكثر نجاحاً، لكنه يعيد ذلك إلى أنّ غيردا لم تجد بعد موضوعاً يلهمها. غيردا ستجد أخيراً ملهمتها المنتظرة. لسوء أو حسن حظها، يتضح أنها ليست سوى زوجها! تطلب غيردا ذات يوم من إينار أن يتموضع مكان الموديل راقصة الباليه التي ترسمها ويلبس جوربها وحذاءها كي تستطيع إكمال لوحتها بسبب تأخّر الموديل. دور المرأة الذي يتقمّصه إينار بالصدفة، يتضح له تدريجاً أنه يعبر عن هويته الحقيقية أكثر من دور الرجل إينار الذي أجبر على تقمصه كل هذه السنوات.
يبتعد عن الميلودراما رغم قسوة حالة التشتت التي يعيشها الاثنان
ما يبدأ كلعبة أو كتجريب بين الثنائي حين يخترعان شخصية «ليلي» التي هي «إينار» المتنكر على هيئة امرأة ويُفترض أنّ «ليلي» ابنة عمه، يتحول إلى حقيقة بالنسبة إلى إينار لن يستطيع الهرب منها. في المقابل، تصرّ غيردا على أنها لعبة بالرغم من أنها بوعي أو من غير وعي منها، تشاركه في استكشاف شخصية «ليلي» التي تصبح مهووسة برسمها، وتحقق لها الشهرة. غير أنّها ضمناً مغرمة بالاثنين «ليلي» كملهمتها و"إينار" كزوجها الذي تتوقع أن يعود إليها بعد انتهاء اللوحة. إلا أن إينار يجد أنّ ليلي المرأة المسجونة بداخله منذ سنوات، تتوق للخروج إلى الحياة. عبر كل تلك المفارقات الغريبة، ينجح الفيلم ببراعة في نقل كل ذلك الالتباس الذي يدور حول الهوية الجنسية وهشاشة مفهوم أنها ثابتة أو أن الجندر مرتبط حصراً بالتكوين الفيزيائي. هكذا، يضع المشاهد في حالة الارتباك نفسها والبحث الذي يعيشه الأبطال. الحوارات في أغلبها مقتضبة لا تبالغ في الشرح، بل تطرح التساؤلات. يعزز من ذلك الأداء الرائع للممثل إيدي ردماين الذي يعكس ببراعة التحول التدريجي الذي يعيشه إينار حتى يتحول إلى ليلي في النهاية، مجسداً ذلك عبر أدق تفاصيل وتعابير وجهه وجسده. مثلاً في مشهد استثنائي بحق، يدفع اينار مالاً لرؤية عارضة تتعرى من خلف الزجاج. يتماهى معها محاولاً تقليد حركة يديها وجسدها. عبر اللغة السينمائية، نرى الاثنين يندمجان وتتداخل أجسادهما ونظراتهما حتى يصبحا واحداً. إيدي ردماين أدى أيضاً بالبراعة نفسها دور البطولة في فيلم «نظرية كل شيء» عن ستيفن هوكينغ، مجسداً الأخير المسجون داخل جسده. ينجح ردماين في نقل كل ذلك الالتباس الساحر الذي يحيط بشخص ليلي. من خلال عين المخرج وعبر جسد الممثل، تتحول ليلي من رجل إلى امرأة من دون اللجوء إلى المبالغة في الماكياج أو الافتعال قبل أن تخضع لعملية لتغيير جنسها. كذلك تسهم الحوارات المقتضبة التي تتسم بالطرافة الذكية في طرح التساؤلات وتحطيم المفاهيم النمطية عن الجندر. على سبيل المثال، يقول أحد المعجبين بليلي: «لستِ كأي فتاة عرفتها»، فتجيبه: «لا بد من أنك تقول ذلك لكل فتاة تقابلها». كذلك، لا يضع المخرج شخصية إينار/ ليلي أو غيردا في دور البطل أو الضحية. يبتعد عن الميلودراما بالرغم من قسوة حالة التشتت والتنازع التي يعيشها الاثنان، فليلي تقرر أن تقتل "إينار". وفي سبيل ذلك، هي مستعدة للتضحية بحياتها، وغيردا ما زالت تبحث عن إينار زوجها داخل ليلي التي لا تعترف بكل حياتها السابقة التي عاشتها كإينار. يستكشف توم هوبر في فيلمه مفهوم الجندر سينمائياً، طارحاً العلاقة بين الصورة والجندر، وكيف يمكن تفكيك الاثنين، واعادة بنائهما، فكله يخضع لسلطة المتخيل كما السينما، مصوراً عبر لغته السينمائية، ما يمكن وصفه بالالتباس الساحر.

* "الفتاة الدنمركية": "غراند سينما"، "أمبير"