«يا عزيزتي، يجب ألا نبتذل كلمة ثورة إلى هذه الدرجة. الكلمة صارت عند العرب مُبتذَلة. بلادنا، كما قلتِ صحيح، طغيانيّة، وقد جلبَت الاستعمار أكثر فأكثر، ودمّرت أكثر فأكثر، باسم حزب البعث... لكنّ الثورة لها خطاب. هل يُعقل أن تقوم ثورة في هكذا بلد مُتخلّف، ثمّ لا يكون هناك بيان واحد لها، يُطالب مثلاً بتحرير المرأة مِن الشرع الديني؟ هل قرأتِ خطاباً واحداً في هذه الثورة التي تتحدثين عنها؟ دلّيني، أين؟ أتحدّث عن خطاب رسمي. هناك شيء اسمه خطاب ثورة». أدونيس يتكلّم، ويُكمِل: «الثورة في المُجتمع يَجب أن تضع يدها على المشكلة. مُشكلة علاقة الدين بالثقافة وبالسياسة. هل رأيتِ بياناً واحداً يُنادي بفصل الدين عن الدولة؟ أتحدّث كثورة، لا كأفراد، يوجد هكذا أفراد صحيح. هل سمعتِ عن ثورة تُنادي بالتدخّل الأجنبي؟ المفروض أن الثورة تُطالب بالاستقلال عن الأجنبي. الثورة عندنا قامت على تدخّل أجنبي. هل رأيتِ ثورة تُخاطب جماعة مِن الأمّة فقط؟ هذا يعني أنّ هناك جماعات أخرى محكوم عليها بالإعدام سلفاً. هل رأيتِ ثورة مِن هذا النوع في أيّ بلد في العالم؟ يجب أن نحترم المداليل لكلمة ثورة... وشكراً».هكذا ردّ أدونيس على فتاة سوريّة (شاميّة كما قالت) مُعارِضة، كانت احتجّت على بعض ما قاله خلال محاضرة له دارت حول العنف والإسلام والعلمانيّة، أقيمت قبل نحو ثلاثة أشهر ضمن إحدى الندوات الثقافيّة لمنظمة «أدهوك» في العاصمة البلجيكيّة. بالنسبة لأدونيس، كما جاء في محاضرته التي كانت آخر إطلالاته، فإن محمد علي باشا، حاكم مصر قبل نحو قرنين، كان أفضل مِن الرئيس السوري اليوم. لم يكن هذا كافيّاً للفتاة الغاضبة، فعقبّت قائلة: «كلّ مَن لم يَحمِل السلاح أفضل مِن بشار». بدت أكثر غضباً عندما قالت له: «أنا لست مرتزقة، أنا مِن الشعب، وشاركت في هذه الثورة... المقهور سوف يلجأ إلى الله في النهاية». جاء تعليقها هذا ردّاً على موقف أدونيس الشهير، الذي أقرّه مجدّداً في الندوة، أيّ أنّه «ضدّ كلّ ثورة تخرج مِن الجامع... فالثوار جاؤوا مِن مختلف دول العالم، وهؤلاء مرتزقة. أما الشعب، في العمق، فلم يخرج، وبالتالي كان ضحيّة». لطالما اعتمد الرجل الرمزيّة في شعره. الآن ما مِن شِعر هنا. الحكاية فكريّة ثقافيّة اجتماعيّة. ستشتعل القاعة بلغة لن يختلف اثنان في تأويلها.
في الواقع، لم يورد أدونيس مواقف جديدة في متن محاضرته. مِن الناحية التنظيريّة، كان يُكرّر آراءه التي دوّنها في «الثابث والمتحوّل» قبل 43 عاماً. ربّما تكون المواقف الجديدة له، أو الآراء اللافتة، أو حتّى النبرة المختلفة، جاءت في الأسئلة والأجوبة التي تلت المحاضرة. ردّاً على سؤال مِن أحد الحاضرين، عن الخروج مِن الدين، مِن الإسلام تحديداً، أو ما يُسميّه بعضهم «ثورة إلحاديّة» عند جيل الشباب، ونشاط هؤلاء على الإنترنت، وفي المُجمل عن موقع هذه «الظاهرة» في تاريخنا، أجاب أدونيس: «أنا شخصيّاً أضع هؤلاء الشبّان في طليعة التحوّل. وأعتقد أنّ هؤلاء هم البداية الأساسيّة. هنا أشجّع وأنضم إليهم، وأكرّر ما قاله أكبر شاعر عربي، هو أبو العلاء المعرّي: «اثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا دين وآخر ديّن لا عقل له». الإسلام اليوم لا عقل فيه. الإسلام بلا ثقافة، والإلحاد خطوة أساسيّة في التحوّل الاجتماعي والثقافي والإنساني». بعد إنهاء هذه الفقرة، كان تصفيق الحاضرين أكثر صدى مِن أيّ مرّة أخرى، على مدى اللقاء الذي دام نحو ساعة ونصف الساعة. ظهَرَ «مهيار الدمشقي» غاضباً مِن الإسلام كما لم يظهَر مِن قبل. بلا قفازات. بلا لغة دبلوماسيّة. إنّها اللحظة «الداعشيّة» في تاريخنا التي جعلت كلّ الأشياء «على المكشوف». المحطّة التي شجّعت كثيرين، ومِنهم أساطين الشِعر المُرهف، أن ينقلبوا إلى لغة «الدَجّ». شيء يبدو أقرب إلى اليأس «مِمّا كان». ذاك الذي «كان»، ولم يُنتج إلا مزيداً مِن الهبوط، وها هم أصحابه، أو القائمون على بنيانه بالأمس، قد أدركوا اليوم ذلك، يعيشون المآلات مع الجميع، فتجدهم كمن يسعى إلى «التكفير» عن أخطاء، أو تقصير، أو عدم تصويب سليم، كانت نهايته الغرق في وحل «التكفير». إنّها مجرّد محاولة للفهم. قالها أدونيس، في محاضرته، بكلّ وضوح: «الفرد حرّ أن يؤمن كما يشاء. لكن أؤكد أننا سننقرِض في ظلّ تأويل الإسلام السائد، بل وفي ظل الإسلام نفسه، لأن الإسلام أصبح مِن عصر آخر. لا مكان له في العالم الحديث».
قد يتورّط بعضهم في اتهام ابن الـ 86 عاماً بالوقوع تحت تأثير خطاب الاستشراق (المُسيّس) القديم، أو نبرة «اليمين الغربي» المتصاعدة أخيراً، لكن مِن الجيد قبل ذلك قراءة ما قاله، في الندوة نفسها، ردّاً على سؤال أحد الحاضرين عن المثقفين الغربيين. بهدوء، بدأ إجابته: «أعرف الوسط الثقافي الغربي، منذ أكثر مِن 30 سنة، وأعرف قليلاً مِن السياسة الغربية. الغرب عميقاً يَحتقر العرب والمسلمين (الجملة الأخيرة قالها منفعلاً). ففي مسألة المُهاجرين (اللاجئين مِن سوريا) إلى أوروبا، فإن البلدان التي كانت مُستعمِرة للبلدان العربيّة، ونَهبَت ثرواتها، مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، كانت ردود فعلها (على اللاجئين) في ناحية، بينما ألمانيا، التي لم تكن مُستعمِرة لأيّ بلد عربي، كانت في ناحية أخرى. ألمانيا كانت شجاعة في تصرّفها رغم أنّ هذا سبّب المشاكل لميركل، بينما نجد الذين استَعمَروا لم يَشعروا أنّ عليهم دَيناً أخلاقيّاً، على الأقل، إزاء هذه الشعوب التي استَعمَروها طويلاً».
كرّر مراراً في ندوة بروكسل بأنّ «الغرب يحتقر العرب والمسلمين»

في مسألة المثقّفين الغربيين، قارن أدونيس بين السابقين مِنهم، أمثال سارتر، والجيل اللاحق مِنهم، أمثال برنار هنري ليفي. هذه هي الأسماء التي اختارها، كأمثلة، وقال: «ستجد أنّ الجيل الحالي هو جيل موظّف في السياسة، مثل المُثقفين العرب أيضاً. فرنسا يُمكن أن نقول إنّها تعربّت على هذا المستوى». بدت آمال الرجل وقد خابت مِن الجميع، مِن كلّ الاتجاهات، مِن الشرق والغرب، وها هو في نهاية الرحلة يُطلق سهامه في كلّ جانب. بدا مُتخبّطاً بعض الشيء. لا يزال، على عادته، يعتمد مفردات «التعميم». هذا ما اشتهر به قديماً. هذا بعض «الثابت» في شخصيّته. أردف منتقداً: «في المقابل، يجب أن ننتقد أنفسنا أيضاً كمُهاجرين. المُهاجرون يُريدون أن يُخضِعوا دار الهجرة إلى ثقافة الدار التي هاجروا منها. لا يُراعون ثقافة الآخر ولا يحترمونه. يُمارسون عاداتهم وتقاليدهم، ولا يَحملون ثقافة يُمكن فرضها على البلدان التي هاجروا إليها. المشكلة مُعقّدة، ليست فقط سياسيّة، بل ثقافيّة أيضاً».
يُذكر أنّ الندوة التي أطلق أدونيس فيها مواقفه هذه، في بروكسل، هي الندوة نفسها التي شارك فيها الكاتب المصري سيّد القمني، وأثارت مواقفه الكثير مِن الجدل في مصر أخيراً. فعلى أثرها، تقدّم أحدهم ببلاغ إلى نيابة أمن الدولة ضد القمني بتهمة «ازدراء الأديان» (الأخبار 20/8/2016). اللافت أن الجهة الداعية لتلك الندوة هي منظمة «أدهوك» غير المعروفة سابقاً، ولا أثر لبيانات تفصيليّة عنها. وربّما لهذا لم يُعرَف بأمر الندوة إلا حين رُفِعت وراجت على موقع يوتيوب بعد مدّة مِن إقامتها. قبل خروج الجميع، ومعانقة القمني لأدونيس، كان للأخير بعض المواقف «غير المألوفة».
لم تكن عبارة «الغرب يحتقر العرب والمسلمين» زلّة لسان مِن أدونيس. كرّرها، في محاضرته، مرّة ثانية، بغضب أوضح وبانفعال أكثر. خرجت مِنه كأنّها مرارة المخدوع، أو كالذي اكتشف الشيء متأخراً. لا يُريد أن يقبل حتّى وجود مفكرين غربيين يقولون «إن الإرهاب لا علاقة له بالإسلام». البعض في بلادنا يرى أن هؤلاء يُنصفون الإسلام. أمّا أدونيس فله هنا رأي آخر، ذو نزعة مؤامراتيّة عميقة، فيقول ردّاً على سؤال: «هؤلاء (المثقفون في الغرب) يُردّدون ذلك لأنهم يَحتقروننا. يَحتقرون الحقائق. ولأن لهم مصالح تؤيّد الدول التي تقول إن الإرهاب مسألة والإسلام مسألة أخرى. هذا كلّه لعب سياسي، لا قيمة له على الإطلاق، ولا يجوز أن تتوقفوا عنده أبداً». بدا يائساً مِن الجميع الآن، مِن كلّ شيء آني، وبالتالي «لا بأس أن ننتظر 50 عاماً».
سيكون علينا انتظار تعليق صادق جلال العظم، خصم أدونيس الشرس، على هذه المواقف. العظم، صاحب «نقد الفكر الديني» في سبعينات القرن الماضي، المُتهم أخيراً بالعودة إلى «سُنيّته» بعد الأحداث السوريّة، والذي اتهَم بدوره أدونيس سابقاً بالعودة إلى «شيعيّته» (أو علويّته)... سيكون عليه أن يقرأ ما قاله أدونيس أخيراً: «العالم الروحاني في العالم الاسلامي، خصوصاً السُنّي، غير موجود. يعني هو عالم حلال وحرام، افعل ولا تفعل، الدين صار مجرّد وسيلة للسُلطة وفقد أبعاده الروحانيّة، صار صعباً ومعقداً». سيكون أدونيس أكثر وضوحاً، في سياق حديثه عن تأويلات الإسلام المختلفة، وبالتأكيد مع عدم إعلان تبنّيه أيّاً مِنها، فيوضح: «هناك التأويل الشيعي مثلاً، لكنّه تأويل يُمثّل الكفر والزندقة عند مليار مُسلم. لنقلها صراحة، أصبح الإسرائيلي أقرب إلى السُنّي مِن الشيعي. هل يُعقل هذا؟ نعم، هذا موجود، ولكن لا أحد يتحدّث عنه».
أخيراً، يعود أدونيس إلى التراث الإسلامي الأقدم، مُستلهِماً الحل، أو الخطوة الأولى، إلى لحظة وفاة النبي. يقول ردّاً على أحد الأسئلة التي تبحث عن حَلّ: «تركوا النبي في فراش الموت، وذهبوا إلى السقيفة لانتخاب خليفة جديد. أتى الأنصار، الذين ناصروه ضدّ قبيلته قريش، فطَرح أحدهم فكرة: مِنّا أمير ومِنكم (قريش) أمير. لكن اقتراحه رُفِض، وأُقصي الأنصار، وديس (كبيرهم) سعد بن عبادة الأنصاري بالأرجل. لا نزال يا عزيزي تحت السقيفة... اخرج مِن تحت السقيفة».