في ظل الأزمات الحادة التي يعانيها الإعلام العربي واللبناني، جراء تخبّطه في العديد من المشاكل والثغر، ومع تصاعد التطور التكنولوجي وانعاكسه بشكل مباشر على هذا الجسم وسلوكياته،وعلى الباحثين الأكاديميين أيضاً حول المفاهيم والنظريات، كانت الحاجة ماسة الى ولادة مؤسسة تعنى بمجال الأبحاث والإعلام وتولي أهمية للأقطاب المعنية من باحثين ومثقفين وخبراء في مجاليّ الإعلام والإتصال: «الرابطة العربية للبحث العلمي وعلوم الإتصال» مؤسسة عربية تأسست العام الماضي وهي تهدف كما في التعريف الى تشكيل «فضاء محوري لتلاقي الباحثين العرب (..) لطرح تساؤلاتهم ومناقشة أفكارهم..».
الرابطة التي نظمت ورشتها الأولى أخيراً في قصر «الأونيسكو» تحت عنوان «أي ثقافة في وسائل الإعلام والإتصال الحديث»، جمعت ضمن 4 جلسات محاور متنوعة ومتشعبة، يشكل بعضها مثار جدل بين أهل الإعلام والأكاديميا بين اللغة وبناء الثقافة والتربية والفن.
الأهم من كل ذلك، أن الرابطة تحاول إيجاد وسيلة تردم الهوة بين الباحثين في مجال الإعلام وبين أهل هذا المجال وأرباب قراره. وهذا ما شدد عليه أستاذ الدراسات والمعلومات وتكنولوجيا الإعلام في الجامعة اللبنانية عماد بشير عندما عرض للبحث الذي تشاركه مع طالبته في الدكتوراه بتول بشير حول «سلوك البحث عن المعلومات لدى معدّي نشرات الأخبار المسائية في التلفزيونات اللبنانية». أكد بشير على هذا التلاقح بين أهل المهنة والباحثين لتعميم فائدة هذه الأبحاث والإفادة منها على الصعيد المهني، وسأل: «هل يقوم أهل الإعلام بدراسة ما يبثونه؟ هل يعيدون النظر بناء على دراسات بحثية وأكاديمية ويقيّمون ما يقدمونه؟». البحث أجري العام الماضي على 120 نشرة أخبار مسائية شمل 122 صحافياً من غرف الأخبار بين مراسل ومحرر في 7 قنوات محلية شاركت في هذا البحث. قوام هذه الدراسة رصد سلوك هؤلاء في البحث عن المعلومات لإعداد هذه النشرات. وتبين لاحقاً أنّ المصادر المستخدمة هي أقل من الحدّ الممكن في أي عمل صحافي من اللجوء الى الإنترنت ووكالات الأنباء العالمية والأرشيف. واللافت هنا أن هذه النشرات تهمين عليها السياسة بنسبة 36 %. تحتوي هذه النشرات على تقارير (خبرّ موّلف) و5% فقط تحقيقات (التي تحتاج الى جهد خاص). وفي ما يخص الموضوعات، تطغى السياسة أيضاً (34%) بينما مشاكل وإحتياجات الناس تتراجع بشكل كبير (إجتماع 9%، إقتصاد:2%). أظهرت هذه الدراسة أنّ العاملين في غرف الأخبار يستوفون الشروط الوظائفية بمعنى هم من فئة الشباب وأغلبهم من خريجي الإعلام (45%) ويجيدون التحدث باللغات الثلاث. لكن أين تكمن المشكلة في المضمون والمحتوى المقدم؟ يسأل بشير. في الخلاصات، يتبين أن هؤلاء الصحافيين لا يميلون الى البحث عبر الأرشيف المتوافر. ورغم نفيهم الإتكاء على وسائل التواصل الإجتماعي للإستحصال على الأخبار، الا أن بشير يشكك في ذلك. العقدة تكمن في أهمية امتلاك مهارات البحث الأساسية وعدم الإعتماد على الإنترنت. أما بخصوص السياسة وهيمنتها على هذه النشرات، فعدا أن المعدّين هم مهتمون أصلاً بهذا المجال، لكن يبقى السؤال مطروحاً إن كانت القناة نفسها هي من تقوم بفرض أجندة خاصة على هؤلاء؟.
في الجلسة الثانية طرح الباحث طلال عتريسي في ضوء تسارع تطور وسائل الإعلام إشكالية «هل يمكن أن تنتج وسائل الإعلام ثقافة أم تعكس ثقافة ما في ظل تراجع القراءات عبر فرض المحتوى لا إختياره، فيسأل هنا عتريسي: كيف تتشكل ثقافتنا؟. إشكالية تشكيل الثقافة في الإعلام اللبناني وتنميته قاربه الإعلامي عماد مرمل من زاوية نظرية بدءاً من تشكل هذه القنوات عبر المحاصصة الطائفية والسياسية وتفاعل المشاهد تلقائياً معها. أضحت هذه القنوات مع الوقت ضحية للسياسيين وأسهمت بدورها في توسيع رقعة الإنقسام على المستوى الشعبي، مما يؤدي حتماً الى غياب مفاهيم موحدة حول الصديق والعدوّ والنظرة المشتركة الى الوطن.
هذا على المستوى النظري. أما في التطبيقي، فقد عرض أستاذ الجامعة اللبنانية مأمون طربيه لدراسة شملت 7 جامعات مختلفة في لبنان حول «من هم اللبنانيون في وسائل الإعلام والإتصال؟» ليتضح أن أغلبهم متعصبون (45%) وأن سبب هذا التعصب متأتٍ عن وسائل الإعلام (25%) بعد رجال الدين والسياسة. طربيه عرض لشعارات وصور تحريضية، قام ناشطون بنشرها على وسائل التواصل الإجتماعي تعبرّ عن حالة التجييش داخلهم وكيف يمارسون صراعاتهم السياسية والمذهبية على هذه المنابر. هذه الوسائل أضحت مع الوقت تعزز فكرة «الأنا» ووحدت اللغة بين الشعوب المختلفة، عندما عادت الى لغة الأقدمين عبر استخدام لغة الإشارات والرموز. في هذا السياق، قدمت عميدة كلية الإعلام في جامعة «الجنان» غادة صبيح مقاربتها لما أسمته «جمهورية الأنا في القرية الكونية»، إذ تبين ومع أهمية هذه الوسائط، وسقوط الحواجز الإجتماعية معها، تغييبها للقيم الإنسانية.
ومن وسائل التواصل الإجتماعي الى البرامج التلفزيونية ومنها «الإجتماعي» الذي يأخذ اليوم طابع الفضائح وتطغى عليه لغة السكوب. عرض الإعلامي قاسم دغمان من قناة nbn تجربته في هذا المجال وكيف أثرت بشكل واضح عليه سياسة محطته النائية بنفسها عن كل هذه الأجواء. وكان لافتاً هنا ما أورده وهو بالطبع إفراز طبيعي لهذه البرامج التي تقتحم الخصوصيات وتصنع من قضية شخصية محقة أو غير محقة قضية رأي عام. استشتهد دغمان بحادثة تلميذة أجبرت استاذها على الإعتذار منها رغم أنها مخطئة بعدما هددته بفضحه عبر هذه البرامج!.
ومن البرامج الفضائحية الى الترفيهية وجولة عليها قامت بها أستاذة الجامعة اللبنانية غادة ضاهر. وليس مستغرباً استحواذها على الشاشات المحلية وانجذاب فئة الشباب تحديداً لها كما أوردت ضاهر، عبر استخدام الإبهار والعناية بالشكل بشكل جيد «على حساب الجوهر». ويبقى السؤال مطروحاً هنا: هل المشاهد على دراية كاملة بما يشاهده وهل يدرك أن هذا التلفزيون هو مجرد عالم متخيل وليس واقعاً؟.