باكراً... رحل
جلال خوري

عرفت رضوان حمزة في مناسبات عدة ضمن أجواء فنية. قدّرت عبقريته وموهبته عندما شارك المرحوم يعقوب الشدراوي في مسرحية «يا اسكندرية بحرك عجايب» (1995) لأسامة العارف. أدى يومها دور لورنس العرب، وكان مذهلاً إلى جانب أدوار أخرى، بزخم وواقعية، ووقع. صحيح أنّ رضوان عمل مدة طويلة في ميادين عديدة من التمثيل إلى الصحافة، لكن ما فعله كان أكثر عطاءً، بمساهمته في إذاعة «صوت الشعب» التي بالفعل كانت من وراء الستار. لعب دوراً مميزاً في تنظيم البرامج والتعاطف والتواصل مع أهل الإعلام. رحل باكراً، وترك فراغاً، على أمل أن يملأه أحد بالكفاءة نفسها.

■ ■ ■


رفيقي وصديقي وأخي

منير كسرواني

لم يمهلني الوقت كي أراه. كنت مسافراً. حزنت عليه كثيراً. كان رفيقي وصديقي وأخي، جمعتنا علاقة طويلة وبعيدة. أنا كأمين سر لنقابة «الممثلين المحترفين»، أشهد على أمانته، وصدقه وحرصه على مصلحة الفنان في هذا البلد. كانت له قيمة وطنية كمناضل في الحزب الشيوعي: قيمة نقابية كممثل من الطراز الأول، وكقارئ من الطراز الأول. رضوان حمزة مثقف كبير مطّلع على جميع الحركات الفكرية في العالم. خسارة كبيرة، خسارة لـ «صوت الشعب»، للحزب الشيوعي، للوطن. خسارة لأهله، لا تعوّض. كان صديقاً وفياً وأبياً، يريد الخير والصلاح. كان حامل همّ البلد على ظهره. أقدم التعازي لأهله، للحزب، لكل من عرفه.
تعاونت معه في برنامج «ضمير منير» (2008)، شاركني حلقات عدّة، ككاركتير مقابل الشخصية التي أقدمها في هذا البرنامج. كان عازماً على خوض الأمور إلى النهاية، لم يكن يعهد المزاح. وللأسف لم يحدث بيننا أي تعاون مسرحي، أو لم يكتب لنا ذلك لاحقاً.

■ ■ ■


لم تغيّره الأيّام

أحمد الزين

سمعت الخبر الأليم منذ نصف ساعة فقط. لا أستطيع أن أصف مدى حزني على رحيل رضوان حمزة. أكتفي بسماع آيات من القرآن الكريم بصوت عبد الباسط عبد الصمد. علاقتي به لا تقتصر على الجانب المهني، فأنا صديق للعائلة. شقيقه الراحل شوقي الذي كان أستاذاً في «معهد الفنون الجميلة» صديق مقرّب لي. قبل أن يذيع صيته ويحظى بالنجاحات المتتالية على صعيد الإخراج والتمثيل، أدّى رضوان بطولة مسرحيتي «الشهيد ابن البلد» التي أعدتها مجدداً إلى الإذاعة استجابة لطلبه. ورغم أنّني اعتزلت المقابلات الصحافية، إلا أنّني أجريت مقابلتين مميزتين عبر «صوت الشعب» استجابة لطلبه أيضاً. رضوان إنسان صادق جداً ونظيف جداً، لم تغيّره الأيّام، بل بقي كما هو منذ أن عرفته حتى آخر يوم في عمره.
قبل أيّام، كنت أفكّر في كثيرين خسرتهم مثل حسن علاء الدين، ومحمود سعيد، وخالد تاجا، ومحمد رافع، وياسين بقوش، وإبراهيم مرعشلي... أمام كل هذه الخسارات المفجعة، أتوجّه إلى الله وأشكره على أنّني ما زلت واقفاً على قدميّ. لقد وصلت إلى مرحلة من التصالح مع الذات والصفاء الروحي تجعلني أقول لله «لقد اشتقت إليك»... أما رضوان، فـ«نيّالك»!

■ ■ ■


الجلسة ناقصة يا رضوان

رفيق علي أحمد

الجلسة ناقصة بلا رضوان، يقول الأصدقاء، وهم العارفون بسعة طرافته وثقافته ومعرفته.
ذُهلت حين جاءني خبرك. فتحت الجريدة علّني أرى صورتك فما وجدتها. أتصفّح الجريدة وأضحك وتسألني زوجتي: «ما بك؟»، فأجيب: «عم بضحك أنا ورضوان».
يا صديقي... وأنت تعرف بأنّه لا يمكن أن يُذكر اسمك أمامي أو تمرّ صورتك في الذاكرة، إلا ويفيض قلبي بالشوق لك والابتسام. فما عرفتك إلا عبثياً لا مبالياً في هذه الحياة، وأنت عالم بأنّ العبثية أبعد حدود الواقع. وأنا أعرف بأنّ لهوك جدّ وجدّك هزل.
حتى رحيلك يشبه أسلوب عيشك. أشعر كأنّ خبر موتك من ألاعيبك التي ترمي من خلالها إلى هدفك الأسمى. شغفك بالمسرح وهمّك العمل النقابي والاجتماعي. يا جامع الأضداد ومولّف قلوب وعقول المتخاصمين. ككل عامل في الشأن العام، قيل فيك المليح والقبيح، وكنت تقابل القبيح بابتسامة و«ماشي الحال»، ونصب عينيك هدف نبيل بعيد عن هذه الترّهات. لم يكن لك أن تكون وعلى مدى عقود عضواً في نقابة الممثلين، ورئيس نقابة المرئي والمسموع، وعضواً في صندوق تعاضد الفنانين الموحّد، الذي كان لنضالك فضل في تحقيقه، لو لم تكن لك هذه الحكمة والحنكة ودماثة الحديث والإقناع، فيلتف حولك الفنانون لإيمانهم بك وبصدق نضالك. يا رضوان سأفتقدك كثيراً يا صديقي. كنت إذا عصيت الفكرة عليّ وضاق بي الليل، هتفت لك: «وينك يا رضوان؟»، فتلاقيني إلى مقهى أو إلى شارع في المدينة، أو ألاقيك إلى إذاعة «صوت الشعب» ويدور حديث القلوب ونحكي عن شؤون المسرح والثقافة والمثقفين وترتاح النفس بالنميمة على الأصدقاء. تحكي وتضحك الروح والجسد، فيزول الهمّ وأعود إلى ما كنت فيه. إذا احتجتك بعد اليوم، يعزّ عليّ أنّني ما عدت أستطيع السؤال: «وينك يا رضوان؟». إنّما أنا والأصدقاء كلّما اجتمعنا سنقول: «الجلسة ناقصة بلا رضوان». ولسوف نروي حكاياتك ونضحك بغصّة في القلب.

■ ■ ■


وجهي الآخر

بطرس روحانا

وجهي الآخر هو رضوان الذي لطالما حفرَ من الحياةِ صخورَها فيما هو يشاهدُ ضاحكاً ما يفتّتُ منها وما ينحت؛ لكأنه ليس مفتّتها ولا ناحتها. لعبويّتُه تضاهي جديِتَه السارحة بهدوء مموّهٍ كساقية تأخذُ وقتها في التقدّمِ والاستراحة والالتفاف حول الصخور والحجارة وجذوع الأشجار الكبيرة والصغيرة.
لا أزمنة ولا أمكنة تضبطُ إيقاعه. هو زمان نفسه وومكانه. إنه الحرّ حتى الثمالة، والمثقف حتى الثمالة، والشاعر حتى الثمالة؛ ثمالة العبَث المخبّأة داخل ضحكته الجميلة المقعَّرة كمهرّج وحيدٍ أمام المرآة.
سأشتاق إلى وجهي فيك أيها الرفيق الحبيب.

■ ■ ■



خالو رضوان الكومبارس

هناء جزيني

الرحيل الأخير، حيث غاب وجه رضوان في عتمة الحياة. رحل ذلك الوجه الضحوك دائماً، المبتسم في وجه المشاكل. رحل الحالم في الحياة. «وين رحت يا خالو؟ وين رحت يا رفيق؟» هذه الكلمة سمعتها للمرة الأولى منك، وعندما سألتك عن معناها، أجبتني بأن «الرفيق» هو «رفيق النضال والحياة، هو لما بيهتم لا بدينه ولا بلونه». علمتنا معنى أن يكون الشيوعي مناضلاً بالقلم والصوت، مناضلاً محباً لرفاقه ومحبيه داخل الحزب وخارجه وفي إذاعة «صوت الشعب» التي أعطاها عمره، وفي التمثيل الذي أحببت أن تلعب فيه دور «الكومبارس».
كان مخرجاً غريباً وممثلاً يرفض أدوار البطولة. في السهرات التي تجمعنا في منزله الممتلئ من الأرض حتى السقف، كان يروي لنا دائماً أن «كل العالم بالحياة بدن أدوار البطولة، ما حدا بده يكون كومبارس، أنا عطوني دور الكومبارس، أنا كومبارس... مش بس هيك، أنا ما بحفظ النص، وأساساً ما بحب دور البطولة».
آخر مرة زرتك في مكتبك في «صوت الشعب»، سألتك عن صحتك، فأجبتني: «أنا منيح ورح ضل أعمل اللي بعمله دائماً لآخر لحظة». حتى في مماتك، تريد أن تكون «كومبارس» مش قبلان تكون بطل.
في رحيلك اليوم، أنت بطل، وستغلق ستائر المسرح عليه وعلى أعمال باقية في جيل علمته التمثيل والإخراج والإعلام وغيرها من عطاءاتك التي ستبقى بذوراً فينا، تنمو إبداعاً مخلداً اسمك دائماً.

■ ■ ■



كأنه عائد

منتهى حمزة

فيض الأنامل الغزيرة وشفق الحياة
صوت العيون وثغره بسمة لا تفارقه
في ساعاته الأخيرة تليه أيها الملاك
المولود ضاحكاً لوجه الصبح للون الربيع
لزهر الجوري انتصب قبلة
ليدين الشمس، لهدوء سنينه، تحدى الزمن وابتسم!
يا زارع الصمت في حقول الصخب
غلة الحصاد في بستان الأمل
أصابعك لم تعرف الشحّ رغم كل الأسى
سخي المواقف واسع الصور
حليم في الرجولة، رحيم كبراءة الطفولة
سدّت نوافذ العطاء، وأقفل باب الدجى
لم يعد يشرق وجهك
من ثغر شبابيك الدار وبابه الكبير
ختم الموت شاهداً على رضوان
محققاً كل أحلامه
فمشى إلى آخر درب الأمل، لحظة بلحظة، لا ينظر خلفه كأنه عائد
* (شقيقة الراحل)

■ ■ ■



عازف الليل يشرب كأسه الأخيرة ويمضي

ريميال نعمة

هكذا بلا نقاش كنت تتقنه! هكذا بلا صوتك الرافض يعلو ويثور ينتقد ويصوب! بلا كلماتك المترنحة الساخرة! بلا خجلك النبيل! هكذا ترحل؟ هكذا ببساطة؟؟؟ ماذا عن الإذاعة يا رضوان؟ ماذا عن البلد؟ ماذا عن النضال بعد؟ ماذا تركت وراءك؟؟ الم نتشارك يوماً الاحلام وإمكانية التغيير؟؟ اين صوتك العالي؟؟ اين صوتك؟ أين صمتك المدوي، أين رفضك؟؟ هكذا تخليت عنا ومشيت، بقامتك الممشوقة مشيت؟؟ ماذا عن ليلك الطويل وعن عشائك اليومي ولمة الأصدقاء في مكتبك – صومعتك؟ ماذا عن كأس الويسكي؟؟ أهكذا يرحل الانقياء؟ كيف لك ان تفعل بنا ذلك يا رجل؟؟ كلام كثير ينتظرنا بعد؟؟ لنختلف أكثر ولنحبك أكثر. ماذا عن «صوت الشعب»؟؟ كلنا رحلنا وانت بقيت فيها ومعها وفياً حتى آخر معزوفة وآخر كأس، حارساً لهيكلها ناطور المفاتيح – كنا نسميك - مناضلاً مؤمناً بأنّ يوماً آخر سيأتي وأنّ الأربعين حرامي (كما كنت تصفهم بسخريتك المحببة) سيرحلون يوماً أو ربما «سيشبعون يوماً»! وسنبقى نحن، نحن الانقياء الطيبين، وسنصنع وطناً أفضل وأنّ شيئاً ما سيتغير. شيء ما!
ماذا عن طموحاتك الشخصية يا رضوان ؟؟؟ ماذا عن دفتر يومياتك الذي كنت تصب عليه كل افكارك وغضبك وكل ملاحظاتك وكل مشاريعك؟ تكتب وتمحو وتعيد الكتابة مرة بعد مرة بعد أخرى. ماذا عن لمى ووليم وعلي؟؟!!؟ ماذا عن طلابك الكثر؟؟
يؤلمني يا رضوان أنّ اقضي سنوات في الإذاعة والا نعقد صداقة متينة حينها كما فعلنا منذ سنوات قليلة وبعد رحيلي عنها بسنوات. آنذاك لم نكن نلتقي كدورة القمر والشمس الا عبر الهاتف، وكان لقاءً يومياً صاخباً يعلو صوتنا فيه أحياناً! اختلفنا معك كثيراً يا رضوان ولكننا احببناك كثيراً أيضاً. وكنت أعاتبك أنا مذيعة الصباح وانت عازف الليل –كما كنت امازحك- فترد علي «النهار اختراع عقيم يا صديقتي. تشرح وتفسر وتحلل أهمية الليل. المؤامرات. قصص الحب.... اللقاءات الساحرة... الشهوة، الفن، المسرح، الابداع، وكأس الويسكي الشهية كله يحصل في الليل» كنت تقول. حسناً كيف لك أن تترك ليلك الطويل وكأسك الممتلئة بعد؟؟ لمن تركتهما يا رضوان ؟؟لا يليق ليل الا بك ومعك. في السنوات الأخيرة، سحبتني الى ليلك الطويل. عرفتك فيه عن قرب صديقاً فارساً نبيلاً مستمعاً جيداً، أخاً وصديقاً منتقداً وناصحاً. وندمت نعم - قلتها لك- «كان علينا أن نكون أصدقاء منذ زمن. كان يجب علينا أن نتحكم في دورة الليل والنهار» وكنت تضحك ضحكتك المجلجلة تملأ ممرات اللإذاعة.
«اقترب اكثر، اقترب بعد، سأنازلك حتى النهاية حتى آخر المعركة» قلتها ووعدت يا رضوان، وعدتنا أن تكون بخير وأن تنازل المرض وتهزمه. حسبي أنّ الموت لم يهزمك. لم تعطه متعة القضاء عليك «بالضربة القاضية». نعم لقد خدعته يا رضوان. خدعت الموت. راوغته، تسللت اليه من الباب الخلفي كما عهدناك دوماً فارساً نبيلاً حتى في معاركك. هزمته يا رضوان. هزمت المرض، لم تعطه فرصة لاخضاعك واذلالك. ولكنك أيضاً هزمتنا يا صديقي، نحن رفاقك الطيبين. ما زال مبكراً الرحيل، برحيلك ورحيل الكثير من الرفاق يقترب منا الموت... يقترب أكثر! وداعاً يا صديقي الجميل أيها الفارس ... النبيل

■ ■ ■


غادر وهو يقاتل

يارا أبو حيدر

يحدث أن يسخر الموت من الموت. انتابني القصور على الفصل بين الجد والهزل عنده، عاد رضوان يعاند الشيب الذي يكسو شعره ولحيته ويسخر من السنين المدونة في سجله الرسمي. بدا لي يومها جدياً، وبصوت واثق مضطرب ليقول لي إنّ عليه أن ينجز الماستير. عاد تلميذاً لدى من درسهم، وفي يوم الامتحان، امتحننا جميعاً، حين أوقفنا على الركح في عرضه الأخير، الذي أطلق عليه اسم «الغراب الأبيض». أدارنا هو المخرج الممثل بلا مبالاة مقصودة، ليضعنا في خطر ... خطر الوجود، لنكون عمياناً نبصر...هكذا أرادها فكانت.
بحثت في تفاصيل وجهه إن كان يمازحني، ولم أجد سوى طفل حالم شاعر شيوعي لم يساوم، ولم يمل من أروقة أقبية «صوت الشعب»، هذه الغواصة التي آثرت الهواء عنها لتطلقه عبر الحدود، «بالهوا منقاوم» كما يقول.
هذا المحترف الأنيق العتيق، صانع الزيت والزيتون والكلمة هدفه ملامسة الآخر وإخراج أجمل ما فيه.
أدار غرفة عمليات في أوقات الحروب وأخرج هواء بحجم المعركة والمعنويات والانتصار، وفي أزمنة أخرى كان ينصت بصمت الى ذاكرة من سبقوه. الى الزرع الى الأرض الى الهواء ليضحك ويضحكنا باحتفالية وخفة، وذاكرة تشبه ذاكرة من لا عقل له.
حارب طواحين الهواء في مسرحية «مصرع دون كيشوت» مع رفيقه الشاعر الذي سبقه محمد العبدالله، ولم نكن نعلم حينها أن تلك الأسئلة التى طرحها رضوان علينا واعتقدنا بثقة أننا وجدنا أجوبتها، فصانع الوهم عالم أننا دونكيشوتات سنكون...
رحل وهو يقول: «كله بقاتل ... الروح بتقاتل، الوقوف، الي بقول لأ، الصرخة بتقاتل».
غادر وهو يقاتل.