فُتِنَ الإنسان بالبحر عبر العصور. خلق ذلك الافتتان الكثير من الأعمال الفنّية الخالدة التي تربطه كمصير وكوجود بالبحر، فكانت رائعة الأميركي أرنست همينغواي «الشيخ والبحر» (1951). وكان «المخيال» المرتبط بالبحر (أي الأدب الخيالي البحري Nautical fiction) قد خلق قبل سنواتٍ طويلة، فكانت رائعة هيرمان ميلفل «موبي ديك» (1851)، فضلاً عن الكثيرٍ من الأعمال الصوتية والضوئية والمسرحية التي تحدّثت عن تلك «الفتنة» المنبعثة من الوصول إلى تلك المساحات المطلقة من الماء والاحتكاك معها بشكل مباشر.يحضر كل هذا في «بطاقة إلى أتلانتس» العمل الجديد الذي يقدّمه الثنائي اللبنانية لينا عيسى والسوري ميار ألكسان (موسيقى سانتياغو كوردوبا ــ سينوغرافيا كرم أبو عياش ــ إضاءة علاء ميناوي). «هناك مدينة اسمها «أتلانتس» غرقت، وهناك نظريات تقول بأنها كانت موجودة أصلاً بين ليبيا وإيطاليا وقريبة من جبل طارق. اليوم، هناك شعوبٌ وأناسٌ كثر بلا مدنٍ يبحثون عن مكانٍ آمن يلجأون اليه. أتلانتس هنا هي «المدينةٌ الحلم» و«اليوتوبيا» بعيداً عن مجرّد التسمية». هكذا تبدأ لينا الحديث معنا حول عملها الجديد. إنه عرضٌ أدائي مع تمازج ضوئي/ صوتي من دون نسيان الحس التاريخي والبعد الزماني والمكاني، خصوصاً مع اختيارٍ مكانٍ قريبٍ جداً للبحر عبر شاطئ عين المريسة، مقابل فندق «بالم بيتش».
المشروع جمع قصص البحار وأساطيره، وسجّل حكايا كثيرين عنها

لينا التي عاشت طفولتها في مدينة صور (حاصلة على ماجستير بالفنون البصرية والأدائية من معهد Piet Zwart في روتردام، ومن أكاديمية Jan Van Eyck في ماستريخت في هولندا) كانت قد أشارت في نبذة العمل إلى علاقتها الحميمة بالبحر، خصوصاً حين روت بشغف علاقتها بخالها الراحل عدنان، الذي أسهم في خلق هذه العلاقة المدهشة مع البحر. أما ميار (خريج المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق)، القادم من عالمٍ مختلفٍ بعض الشيء، فهو دمشقي، ودمشق مدينة داخلية. لذلك كانت العلاقة مع البحر شيئاً «جديداً» ومختلفاً بالنسبة إليه، «حين كنا نزوره مع العائلة أو الأصدقاء في اللاذقية مثلاً، كان البحر بالنسبة إلينا حدثاً مهماً ويحتاج تحضيراً لأشهرٍ عدةٍ قبلاً» يقول الفنان الشاب مضيفاً: «لذلك كان هذا اللقاء والحديث والمصارحة مع البحر شيئاً مختلفاً وذا بعدٍ خاص». تحاصر الأسئلة العمل الفني كما بطليه. وهي تلك التي تسكن مجتمعنا أصلاً وبشكلٍ يومي، ولو لم يرد أحدٌ مواجهتها بهذا الشكل. مثلاً يحاول الثنائي الإجابة على سؤالٍ أبدي حول ماهية البحر: هل له صوت؟ وهل يستطيع أن يروي حكايا كل «الأجسام/ الأشخاص» الذين مرّوا عليه: سبحوا فيه، غرقوا فيه، اصطادوا فيه واعتاشوا منه وعليه؟ أكثر من هذا، يقارب العمل البعد الإنساني لكل القضايا المصيرية المرتبطة بالمنطقة من خلال سؤال الهاجس المطلق «الأمان» والبحث المستمر عن مكانٍ للعيش من دون خوف من القادم والمجهول ولو كان في «أتلانتس». إنه البحث عن «اليوتيوبيا» (المدينة الفاضلة أو الحلم). «يأتي العرض في كثيرٍ من الأحيان عبارةً عن أجساد تسأل نفسها باحثة عن «اليوتيوبيا» الخاصة بها، فمثلاً أنا مدينتي الفاضلة هي الاتحاد مع البحر، فما هي يوتوبيا الصياد مثلاً؟» تسأل لينا عيسى. في الإطار عينه، تقارب الفنانة مسألة «الانتماء» و«الوطن»، فتقول: «أكثر من هذا، حين عدتُ من هولندا حيث أقيم، وبدأت بالعمل في بيروت مع فنانين سوريين، أخبرتهم وقتها أنني وجدت مكاناً أعود إليه، هم أيضاً كانوا يبحثون عن مكانهم. هذا الأمر كان مشتركاً بيننا من دون أن نعرف، فأنا في النهاية مكاني في لبنان غير ثابت أو محدد بالنسبة إلي، فأنا أظل أبحث عنه».
ماذا إذاً عن تفاصيل العمل اللوجتسية؟ «يمتد العمل على قرابة الساعة وربع الساعة تقريباً» يقول ميار، مضيفاً: «نحاول في هذه المدة تجريد الأشخاص من ارتباطهم بالواقع اليومي المعاش قبل دخولهم التجربة التي نقّدمها: الهاتف المحمول، الساعة وسواها. تلك الأمور التي تربطهم بحياتهم خارجاً، بعد ذلك يبدأ العرض». يمكن اعتبار العرض «خاصاً» وعاماً في آنٍ معاً، إذ يستضيف خمسين مشاهداً في كل عرض، وهو عام لأنّه في النهاية يشارك ما وجده الثنائي وجمعاه خلال أكثر من عامٍ بحثاً في قصص البحار وأساطيره، وتسجيلاً لحكايا كثيرين تم تحويلها كي يرسو هذا العرض بشكله الحالي.
يشارك في العمل سانتياغو كوردبوا الموسيقي الأرجنتيني الذي تعرّف إليه الثنائي أثناء عزفه في مطعمٍ هولندي في أمستردام. تحكي لينا قصة لقائهما به: «وصلنا إلى المقهى للقاء أحد الأصدقاء للحديث عن هذا العمل، لنجد عازفاً رائعاً يلعب موسيقاه هناك. طبعاً نحن لم نكن نعرفه قبلاً، ولم يكن الأمر منسقاً على الإطلاق. سرعان ما وجدنا أنفسنا نتفق معه على الحضور إلى لبنان لمشاركتنا في عملنا. كانت المفاجأة أنه وافق، فنسقنا الأمر، وها هو الآن بيننا ويشارك في عملنا. حتى إنه قد أمضى أكثر من شهرين في بيروت يتعرّف إلى المدينة بشكلٍ يومي وحميم». وتكمل لينا أنّ سانتياغو يعزف على الكثيرٍ من الآلات الوترية كالغيتار والغيتار الآلي، بالإضافة إلى البيانو والإيقاعات، فضلاً عن خلقه جواً موسيقياً خاصاً من خلال loop station. باختصار تقول لينا: «إنه يخلق Sound-scape متكاملاً». وسانتياغو هو عضو في فرقة Violentango الأرجنتينية التي اختيرت لتكون سفيرة بلادها الثقافية على مدار السنوات الخمس الماضية. في الإطار عينه، يشارك في العمل كرم أبو عيّاش (سينوغرافيا) وعلاء ميناوي (إضاءة)؛ فيما دعم المشروع منظمات وجمعيات عدة من بينها «برينس كلاوس»، و«المورد الثقافي»، و«آفاق»، و«اتجاهات».

«بطاقة إلى أتلانتس»: من 2 حتى 10 أيلول ــ 18:15 ــ شاطئ عين المريسة مقابل «بالم بيتش» (بيروت). للحجز: www.antoineticketing.com