ثم رحل الضاحك دوماً. سمير يزبك الغارق في الفرح حتى آخر صدحة «الأوف» الشجية، مضى أمس باسماً في رحلته الأخيرة. ذهب بعدما أعياه الألم الشخصي والوجع الجماعي. كان لا بد لذلك اليوم من أن يأتي. اليوم الذي يتعب فيه القلب المحب، ويصير عاجزاً عن احتمال أعباء المحبين.«الشحاد» التائق لنظرة عطف من عينين دافئتين، أغمض عينيه الجميلتين ومضى. لم يعد الزمن زمنه، ولم تعد اللغة تطاوعه. ثمة مصطلحات جافة صارت مستعصية على اللسان السيال، وثمة عيون باردة في هذا الزمن العابق بالقحط والجدب ورعونة الريح. سمير الماضي الجميل لم يبق لديه ما يقيم به الصلة مع الحاضر. ختم الموال على كثير من الحنين والإلفة، ثم مضى يحتضن بقايا بسمة عرفت به وعرف بها. سيفتقد الناس في هذا الزمن العابس ابتسامة سمير، وسينتابهم حنين إلى دفء صوته النابع من أعماق القلب. وسيسألون طويلاً: لماذا ازدات الحياة تجهماً؟! وستعجزهم الإجابة. سيكون عليهم أن يتناسوا تلك الآه الصادقة التي كانت تخرج قسراً من أفواههم، بينما يراكم سمير يزبك الجواب والقرار في تناغم نادر.
تقول الأخبار إنّ سمير يزبك (1939 ــ 2016) رحل أمس بعد صراع طويل مع المرض. التوصيف يفتقد إلى الدقة. هو يعتمد صيغة إخبارية جاهزة تستوفي الشروط الأكاديمية وحدها. الصواب أنه بالرغم من حنجرته الجريحة، غنى سمير للمرض حتى أطربه، والمنطقي أنه أشجى الموت بينما هو يلوح له من بعيد. وإذ أحس به يقترب منه، اشتعلت فوق شفتيه أغنية: «خدني معك خدني على بلاد الهوى.. قلبي انجرح من هالدني وعمري انطوى». كان ينظر إلى جسده المتواري كما يصغي إلى شظايا صوته القافز فوق حدود المألوف. ثم أغمض عينيه بتواضع عرف عنه. والأرجح أنه قبل أن يدخل في إغفاءته الأخيرة، قال لنفسه بخفوت جميل: «أحسنت يا سمير.. لقد كانت وصلة موفقة»!
اللقاء الصدفة الذي جمعه بالشاعر الاستثنائي زين شعيب أثمر عن أغنية «طول غيابك يا حلو»

كان سمير يزبك استثنائياً حتى الرمق الأخير، يكفيه، ويكفينا، أن السيدة فيروز هي التي اكتشفت امكاناته الفنية، وفتحت له الدرب الرحباني المنطوي على سحر كثير، فكان أن بلغ المدى الأرحب. يصعب أن تعيش أغنية عقوداً كثيرة من دون أن يكون سمير يزبك صاحبها، ويصعب أن تضج الذاكرة بأغان تنتمي إلى الزمن السحيق، من دون أن تكون حصته منها هي الأوفى. ترى كم سيكتب الشعراء من كلمات، وكم سيبني الملحنون من أنغام، وكم سيغني المطربون من أغان حتى تأخذ أغنية ما مكانة «دقي دقي يا ربابة»؟!! وكم سيتراكم من الآلام في صدر البشرية، حتى يكون متاحاً لها ابتكار تعريف للوجع يضاهي مدلوله في مواله الشهير «موجوع»؟
كان في الثانية والعشرين من عمره عندما فوجئت فيروز بأن الصوت المسجل الذي اسمعه إياه صاحب الصالون، بينما هي تصفف شعرها، هو صوت سمير الذي يتولى تمشيطها. حينها، بدأت الرحلة في كورال الرحابنة لتأخذه نحو أماكن كثيرة، وتضعه على لائحة الكبار من الفنانين العرب. حصل ذلك عام 1961 وأمكن للساحة الفنية أن تستوعبه وتصنفه واحداً من أعلامها، إلى جانب آخرين مثل نصري شمس الدين، وعصام رجي، وجوزف عازار. دراسته الأكاديمية في عزف العود في الكونسرفاتوار الوطني، منحته مقدرة على التلحين، ما أفسح المجال أمامه في اختيار الأغاني التي تلائم قدراته الصوتية الميزة، وذهب به سريعاً نحو أقصى الخارطة الغنائية. قد يكون سمير يزبك أحد قلة من أهل الغناء أخذت مكانها الذي تستحقه من دون كثير من العناء.
شكلت رائعة «لبنان يا قطعة سما» للعملاق وديع الصافي مدخله إلى الإذاعة اللبنانية، شارك عبرها في مسابقة للأصوات المميزة، وحاز المرتبة الأولى. كذلك كان للقاء الصدفة الذي جمعه بالشاعر الاستثنائي زين شعيب ـــ الذي لم يأخذ حقه بعد رغم كل ما قيل وكتب حوله ــ أن أثمر عن أغنية «طول غيابك يا حلو». أغنية شكلت رافعة فنية تليق بقدرات سمير يزبك.
شهدت بلدة رمحالا في قضاء عاليه ولادة سمير يزبك عام 1939 الذي تعود أصوله إلى بلدة الناعمة. لكن كان لبرج البراجنة أن تحتضن تلك الموهبة الواعدة في طفولتها، كذلك كان لمدرسة «مار الياس شويا» أن تمنحه فرصة الانطلاق نحو بناء الغد. يروي عارفوه أن الكنيسة المحاذية لمبنى المدرسة هي صاحبة الفضل الأكبر في تكوين شخصيته، حيث كان يشارك في القداديس، وكذلك فعلت والدته قبله، هي التي كانت تملك صوتاً آسراً استغلته في التراتيل الدينية.
في عام 1963، حظي الفنان الراحل بفرصة اللقاء مع روميو لحود، الملحن ذي الحيوية الاستثنائية. وكان لذلك اللقاء أن يأخذه باتجاه المسرح الغنائي، حيث تحول إلى علامة فارقة في «مهرجانات بعلبك الدولية»، وأيضاً في «مهرجانات بيت الدين». كان اللقاء إيذاناً بولادة مسرحيات غنائية شكلت جزءاً خصباً من الذاكرة الفولوكلورية: «القلعة»، «الشلال»، «الفرمان»... كذلك، أثمر لقاؤه مع روميو لحود عن رائعة «دقي دقي يا ربابة» التي وضع الأخير كلماتها وألحانها، وكانت الأغنية الأحب إلى قلب الفنان الراحل. كما أمكنها أن تحقق اختراقاً عربياً وعالمياً، بالرغم من أن بعض المهتمين يرونها أقل مستوى من أغنيته الرائعة «اسأل عليّ الليل يا حبيبي» التي لم تحظ، وفق آرائهم، بما تستحقه من حفاوة.
أما وقد رحل سمير يزبك، فإن فن الغناء بعده سيكون كسير الخاطر. ستعوزه تلك النبرة الواثقة، وذلك الصوت الجذل المتمكن من دون اعتداد والشجي من دون وهن. ستغدو الآه الصادقة المنبعثة قسراً من حنايا الروح أكثر ندرة، وستعز تلك الدهشة النقية التي تنسل بغتة من أذهان المتلقي بينما هو يصغي إلى صرخة أوف سابحة في فضاء مفتوح.